تتشارك الأفلام والروايات التي تتحدث عن مستقبل يسوده حكم طغمة فاشية يستعين بالإرهاب والقوة لفرض وجوده بالاستناد إلى أيديولوجية شمولية، وسط تأييد أو لامبالاة أكثرية الشعب، تتشارك في أنها تضع نهوض هذا النوع من الأنظمة بعد وقوع كوارث بيئية أو من صنع الإنسان أدت إلى دمار الحكومات الديموقراطية التي ظهر من يلقي اللوم عليها بالمسؤولية عن انهيار الدولة والمجتمع.
لعل أشهر الأعمال التي تناولت المستقبل القاتم، «الديستوبيا»، هو رواية جورج أورويل «1984» حيث تمارس السلطة رقابتها على كل ما يتعلق بالمواطنين بما فيها العلاقات الشخصية، وتعتمد الكذب والخداع والعنف العاري كأدوات للحكم. الأفراد الذين لا يلتزمون بسياسات «الأخ الأكبر» يُسامون سوء العذاب... إلى آخر الرواية المعروفة.
تتكامل اليوم في العديد من أنحاء العالم صورة ديستوبيا قوامها أنظمة «الرجال الأقوياء» (بحسب عنوان مقال نشرته قبل أيام قليلة مجلة «ذي إيكونوميست») من فلاديمير بوتين وشي جيبينغ ورجب طيب أردوغان وفيكتور أوربان، الشعبويين المعادين للديموقراطية إلى أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا الغربية وانتهاء بدونالد ترامب المعتمد في الخروج من تبعات فضائحه على افتعال أزمات جديدة على نحو يتيح له تحسين شعبيته التي وصلت إلى 45 في المئة بين الأميركيين.
لا رادع للزعماء هؤلاء عن الاستحواذ على السلطة المُعَبّر عنها برضى الجمهور والناخبين. كل الأدوات مباحة ما دامت قابلة للاستغلال من أجل الحصول على المزيد من الأصوات وعلى سلطات أوسع. لكن ما هي الكارثة التي توقعتها الأعمال الفنية كمقدمة لظهور «الديستوبيا»؟ يقترح مقال «الإيكونوميست» المذكور أزمة الديموقراطية الليبرالية التي يبدو أنها على طريق التفكك والزوال لتحل مكانها سلطات قائمة على التضليل وعلى الخوف. مسار طويل مرّت به الليبرالية الديموقراطية قبل أن تصطدم بحائط الأحزاب الشعبوية و «الرجال الأقوياء».
أممية جديدة تمد ظلالها من الصين وروسيا إلى الولايات المتحدة، حيث يتبادل الزعماء إبداء الإعجاب بخطوات بعضهم وبسياساتهم القاسية مستخدمين عبارات تذكر «القوة» و «العظمة» و «المؤامرة» و «الأعداء» التي يعسر على غيرهم وضعها في سياق منطقي، إذا كان خارج منظومة التفكير الشعبوي. عبارات ومصطلحات مشتقة من الخطاب الذكوري التقليدي المناهض لكل اعتراف بالاختلاف والتنوع وحقوق التعبير التي يفترض أنها صارت من البداهات، ومشتقة أيضاً من قيم التسويق التلفزيوني والدعاة الدينيين الذين تعج بهم المحطات الفضائية.
فكل «منتج» سواء كان حزباً أو فكراً أو سياسة ينبغي أن ينجح في الرواج السريع بين «الزبائن» وهؤلاء هم الناخبون الذين لا معنى لوجودهم أو لمصالحهم في معزل عن استجابتهم لحملات التسويق والبيع، تماماً مثلما تنجح حملة إعلانية في انتزاع حصة بضاعة ما من السوق لتحل مكانها بضاعة أردأ وأخطر بفضل حذق الحملة التسويقية وتجاوب الزبائن (الناخبين) معها.
إعلاء الأسلوب على المضمون، في التسويق التجاري والسياسي والديني، ضخّم حجم المنافسين- الأعداء وسلط الضوء على صعوبات بعضها متخيل وعلى استحالة تسويتها بالوسائل الديموقراطية والعقلانية، مقابل حلول سحرية وسريعة لا يتقنها غير سياسيين شعبويين ومغامرين على استعداد للتضحية بمواطنيهم من أجل لذة السلطة التي لا تفوقها لذة. حكام من صنف بشار الأسد وكيم جونغ أون وأشباههما يجدون بسهولة مواقع لهم على هذه الخريطة.
لا يعني ذلك أن نظاماً عالمياً جديداً يرتكز إلى الشعبوية سيحل قريباً كبديل كوني عن الديموقراطية، لكن ما تقدم يشير إلى أن أزمة هذه الأخيرة قد بلغت حداً خطراً يهدد بمستقبل من الديستوبيا.