ليس عيباً أن يعمل خبَّازاً في فرن القرية والمدينة، كان يتجوَّل في الطرقات والشوارع ليوزع الخبز على محلات الباعة، بعد أن فرَّ من صفوف مدرسة الحيِّ تاركاً وراءه حذاءه الكبير رغم قدمه الصغيرة،أتلف قميصه المتسخ بطحين فرن النار، ورغيف الخبز الذي يلاحقه باستمرار من الشروق وحتى سقوط رغيف الشمس في الماء الأُجاج.
يمَّم وجهه شطر قم المقدسة ليتعلم أخلاق الأنبياء وعلم الأوصياء وزهد الأولياء، وأتقن مجالس الوعظ، وعاد مسرعاً وملتحفاً قماشاً من خيشٍ صوفي حريريٍّ كأفعةٍ تتلوَّى في عزِّ الحرِّ، ومعتمراً قبعةً الطريق ليرشد الضَّالين عن جادة صراط الأخلاق والصواب والدين، أتقن سريعاً مهنة الوعظ في الدين فاعتاش سريعاً وأصبح تاجراً يتقن فنَّ تجارة مع الله والناس بالعملات الصعبة وأحجار القبور وأكل أموال اليتامى والأرامل، ويكنز الذهب والفضة، ليشبع رغباته بطرقٍ غير مشروعة وغير شرعية، وهكذا يا صاحبي ما زلنا نسمع في كل يومٍ، هناك رواية أو قصة عن شيوخٍ ترتدي قبعاتٍ سوداء وبيضاء ليسحروا أعين الطيبين البسطاء من ذكورٍ وإناثٍ بلطافة الحديث ونزاهة الخلقن وبتواضعٍ متقنٍ ليكملوا أدواهم الشيطانية ويضلون الكثيرين من الذين ينظرون إلى الدين كمنظِّفٍ لخفايا مرتديه.. وأكثر ما يدهشك فيهم وأن تراقب حركاتهم ومواعظهم أنَّ اتساق القيم تحتشد بكثرة في أفواههم بحيث تندلق الأخلاق دلقاً في فم عابدٍ لم تلهيه امرأة أو تجارة أو بيع عن ذكر الله، ونتيجةً لمعرفتي الشخصية بلصين أبيضين وأسودين، تجد سهولة القول والقدرة على التماهي مع النقيض إلى حد أنَّ دروس الأخلاق والزهد والتواضع والعفة والشرف التي يتفنون بها ويدعون الناس إليها هم من المنصرفين عنها، فلا هي موجودة في بيوتهم ولا حتى صورها موجودة على جدران منازلهم ومسابحهم وسبحاتهم.
سبحان من بادلنا العيوب في مرآة الصداقة، سبحان من أمسى وأصبح وهو يؤنب نفسه لتأنيب غيره، سأشعل من تبقَّى لديَّ من شموع حتى أرى ما تبقَّى من ظلال الوجوه العالقة على النوافذ مثل الأنفاس، ما أسعدني وأنا مودعهم، ورميتُ حجراً في بئر الغربة، أربعون عاماً وأنا واقف قرب الحائط تمرُّ من حولي كل الكائنات والأرصفة والطرقات، وأنا واقفٌ أمام الأحجار، متقنعاً حياء الطفولة، ورعشة الخوف من سكاكينهم، لم يرمِ الفرعون يوسف في البئر، وإنما رماه إخوته، دم أبيهم ولحم أمهاتهم المتوزِّع في جمال صدقه، رحم الله السلف الصالح الذين كانوا يبيتون على قرصين وثوبين ولم يكونوا وعاظ زهد، بل كانوا تجارب إنسانية حيَّة متصلة بالأنساق الإنسانية من طبيعة أوضاعهم ومواقع اقوالهم الفعلية، تعبيراً عن درجات إيمانهم العميق بالدين والأخلاق، كسماتٍ بارزة من هويتهم الواضحة والصريحة.
إقرأ أيضًا: المعارضة الشيعية.. ما لها وما عليها!