يستمع الرئيس سعد الحريري هادئاً إلى الأصوات التي تطالبه بالإسراع في تأليف الحكومة. ولكن، من الواضح أنه لن يستجيب إليها قريباً. هو سينتظر أن تُقارِب الأزمة حدودَ الانفجار. وعندئذٍ، يُخرِج الأرنبَ من القُبَّعة ويبتسم للجمهور!
 

بالنسبة إلى الرئيس ميشال عون، ولادة الحكومة تبدو أمراً مستعجلاً. فالعهد الموعود يجب أن يبدأ. هو قال إنّ العهد الحقيقي ينطلق بعد الانتخابات النيابية التي كان مفترضاً إجراؤها قبل عام. واليوم، يقترب الرئيس من عامه الثاني في الحكم، وينتظر ولادة الحكومة.


المطلعون يقولون إنّ عون يعرف حاجة الحريري إلى الوقت ليتمكّن من استكمال المناورة. وهذه المناورة بدأها أساساً بإجراءات وتبديلات، بعد الانتخابات، على مستوى الأقربين وكوادر تيار «المستقبل»، بهدف إفهام الذين يعنيهم الأمر بأنه غير راضٍ بالانزلاق إلى مزيد من الخسائر وخرقِ فريق 8 آذار للطائفة.


في الانتخابات، حقّق سُنّة 8 آذار والوسطيون خروقات مهمّة في مختلف الدوائر، على حساب «المستقبل». وهذا ما يستدعي واقعياً أن تكون تركيبة الحكومة انعكاساً للتوازن السياسي الجديد في المجلس.


ولهذا السبب، سارَع الحريري إلى استعراض قوّته السنّية بعد الانتخابات. كما أظهَر حرصاً على حصر تمثيل السنّة به و»معاقبة» بعض الوجوه «المستقبلية» على دورها في الانتخابات. وهذه الرسالة، وإن تكن غيرَ واقعية سياسياً، موجّهة خصوصاً إلى السعوديين والقوى الحليفة عربياً وإقليمياً ودولياً.


وكما عون، كذلك «الثنائي الشيعي» يستعجل تأليفَ الحكومة التي تنتظرها مهمّات أساسية في المرحلة المقبلة، ولا تتحمّل المماطلة، ولا سيّما منها الانفتاح والتنسيق مع دمشق، خصوصاً في ملف النازحين الذي فُتِح على مصراعيه هذه المرّة ولن يُغلق… إلّا بمدّ جسور التواصل مع حكومة الرئيس بشّار الأسد.


والمهلة التي يمنحها الرئيس نبيه بري لولادة الحكومة محكومة بأسابيع قليلة، لأنّ الورشة الداخلية في المجلس النيابي مرهونة بها. وهو يلوِّح بضرورة تعديل النصّ الدستوري ليصبح الرئيس المكلّف محكوماً بمهلة زمنية محدّدة للتأليف.


ولكن، على الأرجح، يَصعب اليوم فتحُ أبواب التعديلات الدستورية. فقد يتّخذ الملف بُعداً مذهبياً وطائفياً، ويبرّر طرح البعضِ تعديلاتٍ أخرى. ولذلك، فإنّ طرح رئيس المجلس يبدو وسيلة ضغطٍ سياسية يُراد منها حضُّ الحريري على إنهاء نهجِ التراخي والتباطؤ المقصود في عملية التأليف.


ويَعتقد بعض المتابعين أنّ الحريري ليس منزعجاً من الضغوط التي يمارسها عون وبري و»حزب الله». فهو يتوقّعها ويتقبّلها واقعياً، لأنه يدرك أنّ غالبية القرار في عملية التأليف يملكها هؤلاء الثلاثة، أي فريق 8 آذار، وأنّ القوى الأخرى مضطرّة إلى القبول بخياراتهم في النهاية.


ويذهب البعض إلى الاعتقاد أنّ هناك توزيعاً ضمنياً ومستتراً للأدوار و»سيناريو» مشتركاً في عملية التأليف بين الحريري وشريكيه في الحكم، عون وبري.


ووفق هذا «السيناريو»، يوحي الحريري بأنه يتصلّب في مواجهة «حزب الله» وحلفائه، وأنه مستعدّ لإطالة أمدِ التأليف من دون ضوابط زمنية، تحقيقاً لهذه الغاية. وهذا ما يتيح له الاحتفاظ برصيده لدى المرجعيات العربية الحليفة…


ولكن، عندما تبلغ الأزمة الحكومية ذروتها ويتهدّد الاستقرار، يتدخّل الوسطاء في الداخل والخارج لإقناع الحريري بتسهيل التأليف ومراعاة التوازن السياسي الجديد في المجلس النيابي، إلى حدّ ما. وفي هذه الحال، يصبح تأليف الحكومة مهمّة عربية ودولية كاملة، بحيث لا يمكن لأحد أن يتّهم الحريري بأنه تنازَل لمصلحة فريق 8 آذار، كما جرى في خلال أزمة تشرين الثاني 2017.


إذاً، واقعياً، المهلة الممنوحة للحريري تُقاس بالأسابيع. وملامح الحملة التي بدأ يشنّها فريق 8 آذار ستقود إلى أزمة سياسية شرسة ينتظرها الحريري لتبرير الموافقة على تسهيل التأليف.


فأركان الصفقة التسووية المعقودة في نهايات 2016 يتمسّكون بها ولا يختلفون على الهيكلية الأساسية للحكومة العتيدة والخطوط العريضة لبرنامجها. وهذه الحكومة ستكون تجسيداً لاستمرار الصفقة. وسبقَ لهؤلاء أن توافقوا على المجلس النيابي الحالي، من خلال «تدبيرهم» للانتخابات الأخيرة والقانون الذي رعاها.


وهذه التسوية تحظى بدعمِ القوى الخارجية المعنية بالشأن اللبناني، لأنّها تشكّل قاعدة للاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في لبنان. وهذا الاستقرار ضروري لاستمرار لبنان جنّةً لإيواء النازحين وتجنّبِ زحفهم، عبر المتوسط، إلى أوروبا… علماً أنّ هناك شكوكاً حقيقية تحوم حول رغبة عددٍ من القوى والمؤسسات الدولية في توطين هؤلاء في بلدان اللجوء.


وهنا يصبح واضحاً ما يَبذله عدد من القوى الدولية لإقناع لبنان بتطبيع إقامة النازحين في لبنان، مقابل رشاوى بالمال والمشاريع والخدمات. وزيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لبيروت تندرج في إطار الرشوة أيضاً: تسهيلات للبنان بنِصف مليار يورو شرط الموافقة على تطبيع وضع النازحين!


والآتي في مؤتمرات الدعم المقبلة سيكون أعظم. وعلى الأرجح، سيتلقّى لبنان عروضاً واضحة: النازحون مقابل المساعدات، وسيستفيد حلفاء نظام الأسد من هذه الفرصة ليقولوا: التنسيق مع الأسد مقابل النازحين!


وهكذا، فإنّ الضغوط على الحريري لتسريع تأليف الحكومة ستكون قوية، لأنها نتيجة تقاطعٍ داخلي وخارجي. والحريري يتوقّعها وينتظرها في هدوء، لأنه يَعتبرها جزءاً من «السيناريو».