منذ أيام قليلة بدأت بطولة كأس العالـم لكرة القدم فـي العاصمـة الروسية موسكو، البطولة التـي ينتظرها مئاتُ الـملايـيـن من الناس كل أربع سنوات، وبدا القيصر الروسي فلاديـميـر بوتـيـن، الذي تستضيف بلادُه هذا الـحدث العالـمي، فـي أوج مـجده وعظمته، متـحدّياً العقوبات الأميـركية والأوروبية، ومكرِّساً روسيا الزعيمة الثانية للعالـم على رغم أنف الولايات الـمتحدة.
وعلى رغم الوضع الإقتصادي السيّئ الذي تـمرّ به روسيا نتيجة العقوبات، وخسارة الروبل حوالـى 50 فـي الـمئة من قيمته الشرائية، فقد أنفق القيصر على تـحضيـرات البطولة 13 مليار دولار، سيستـردّ قسماً منها من الـحركة السياحية، ولكنه لـم يأبه للتكاليف، ولـم يفكّر بالـمردود الـمادّي، بل كان يفكّر فقط بالعظمة التـي إشتاقت إليها روسيا بعد تفكّك الإتـحاد السوفياتـي.
منذ إنشاء البطولة فـي العام 1930 تُـهيمن قارّتا أوروبا وأميـركا الـجنوبية على منافسات كأس العالـم لكرة القدم، ولـم يـخرج اللّقب من تلك القارّتيـن منذ إنشاء البطولة. صحيح أنّ الـجزءَ الغربـي من روسيا يقع فـي قارة أوروبا، ولكنّ هذا الـجزء الذي يشكّل حوالـى 40 فـي الـمئة من مساحتها، لـم يسمح لـها بإحراز البطولة ولو لـمرة واحدة.
ربـما لأنّ روسيا لا تفتش عن بطولات صغيـرة وكؤوس صغيـرة، بل يـهمّها الكؤوس الكبيـرة والـجوائز الكبيـرة، مثل إحتلالـها شبه جزيرة القرم عام 2014، والسيطرة على سوريا عام 2015، وبسط نفوذها على إيران والعراق بعد خروج الـجيش الأميـركي من العراق عام 2011، والعمل على تـحقيق حلمها الكبيـر بإعادة مـجد الإتـحاد السوفياتـي الذي تفكّك فـي العام 1991.
عندما سافر الرئيس الـمُكلَّف سعد الـحريري إلى موسكو لـحضور إفتتاح الـمونديال الكرويّ، أراد أن يصيبَ عدّة عصافيـر فـي حجر واحد، فتشكيل حكومته الثالثة يواجه عوائق وعقداً مسيحيّة وسنّية ودرزيّة، أمّا «الثنائـي الشيعي» الذي حصل على مقاعده الستة وعلى الـحقائب الذي يريد، يطمح الآن إلى «حكومة مقاومة» كما بشّر بـها قائد فيلق القدس التابع للـحرس الثوري الإيرانـي قاسـم سليمانـي، أي إلى حكومة يسيطر عليها «الـحزب» وحلفاؤه.
فالذي يـحصد 74 مقعداً نيابياً من أصل 128، كما قال سليمانـي، يستطيع بكل سهولة أن يشكّل الـحكومة الذي يريد ويـحصل على ثقة مريـحة فـي الـمجلس النيابـي، فـما الـحاجة إذاً إلى رئيس حكومة مُشاكِس وإلى وزراء معارضيـن لـمحور الـممانعة؟
حـملَ الـحريري هـمومه ومشكلاته إلى ولـيّ العهد السعودي الأميـر مـحمد بن سلمان، الذي حضر إلى موسكو من أجل مؤازرة الفريق الأخضر أمام الـمنتخب الروسي فـي إفتـتاحية كأس العالـم، وإلى القيصر الروسي فلاديـميـر بوتيـن، صاحب النفوذ القوي لدى مـحور أهل الـممانعة، وأحد رعاة السلم الأهلي فـي لبنان.
ولـيّ العهد السعودي الذي يسعى إلى إعادة إحياء فريق 14 آذار، والذي إتـهمه سليمانـي بإنفاق 200 مليون دولار من أجل مـحاربة «حزب الله» فـي الإنتخابات، لن يرضى بتشكيل حكومة يسيطر عليها «الـحزب» وفريق 8 آذار، ولو تأخرّ التشكيل وطال.
أمّا القيصر الروسي، وإن كان من الداعميـن لـمحور الـممانعة، فـهو يعلم جيداً أنّ أيّ حكومة غيـر متوازنة لن تعيش، وسيشتدّ عليها الـخناق وتـتعاظم فـي وجهها العقوبات وتطيـر كل وعود مؤتـمر «سيدر». وكما بات معروفاً فإنّ كلّ القوى العظمـى، بـما فيها روسيا، تدعم إستقرار لبنان وتـحيّده عن صراعات الـمنطقة ما دام يأوي مليونـي لاجئ ونازح، ويـخفّف ضغط النـزوح إلى بلادهم.
الرئيس سعد الـحريري فـي مأزق، والتسوية الرئاسية على الـمحكّ، فلا الـحريري ولا السعودية سيـرضخان لشروط «الـحزب» وحليفه «التيار الوطنـي الـحرّ»، ولا «القوات اللبنانية» و»التقدّمي الإشتـراكي» سيتنازلان عمّا يعتبـرانه من حقوقهما.
فــ«القوات» التـي خسرت معركة نيابة رئاسة الـمجلس أمام أحد وجوه فتـرة الوصاية السورية، لن ترضى أن تـخسر مرة ثانية نيابة رئاسة مـجلس الوزراء، وتنسى بنود إتفاق «إعلان النيات» ومرتكزاته، و«التقدمي» الذي حاصرته قوى السلطة فـي الإنتخابات وخسّرته مقعديـن نيابيـيـن، لن يرضى أن يتنازل عن الـمقعد الدرزي الثالث لصالـح تلك السلطة التـي «فبـركَت» كتلة نيابية لإحياء أحد حلفائها.
فـي روسيا، يتنافس فـي بطولة كأس العالـم 32 فريقاً من مـختلف دول العالـم للفوز بالكأس، وفـي لبنان يتنافس 30 وربـما 32 من الـمحظيـّـيـن و«الـمنبطحيـن» لدخول جنّة الـحكم والفوز بـغـنـائم الوزارات. صحيح أنّ «البقرة الـحلوب» قد جفّ ضرعها وأصبحت هيكلاً عظمياً، ولكن حتـى العظام لـها نكهة طيّبة لدى أهل الفساد.
فـي الـخامس عشر من تـموز تنتهي معركة التنافس على البطولة الكرويّة ليفوز الفريق الذي يستـحقّ، أمّا فـي لبنان فلن تنتهي معركة التنافس على الـحصص وعلى الوزارات الدسـمـة، ولن يفوز الذي يستـحقّ.
لقد أردتـم يا فـخامة الرئيس أن تكون هذه الـحكومة هي حكومة عهدكم الأولى، ونـحن نؤيّـدكم بـمسعاكم، لأنّ الوضع الإقتصادي فـي البلد لـم يعد يـحتمل «التـرقيع» والتسويف والـمماطلة ورؤية الوجوه والشعارات نفسها التـي مـجّها اللبنانيون.
فلتكن إذاً حكومة ترضي ضميـركم أولاً وترضي الناس لا الزعماء، حكومة لا يدنّسها أصحاب الشبهات والسمسرات، حكومة الرغيف والـماء والكهرباء، حكومة الأقساط والـمستشفيات، حكومة السيـر والنظافة والإتصالات، حكومة عودة النازحيـن إلى بلادهم، حكومة القضاء على الفاسدين والـمفسديـن وتطبيق شعار «من أينَ لكَ هذا»، فـهدم مؤسّسة الفساد، الـخطوة الأولى فـي إعادة بناء مؤسّسات الوطن.