على وقع الجدال العنيف الذي ما زال دائراً في الكواليس الديبلوماسية، بين بعض اللبنانيين ممثلين بوزير الخارجية جبران باسيل وافرقاء لبنانيين آخرين من جهة، والمجتمع الدولي ممثلاً بمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمتضامنين ومَن معها من سفراء المجموعة الدولية من اجل لبنان وممثلي الإتحاد الأوروبي والجامعة العربية في لبنان ما زال ملف «عودة النازحين السوريين» في واجهة الإهتمامات ومعه جملة المخاطر المترتّبة عن أيِّ فشل يمكن أن يصيب الجهود المبذولة لإعادتهم الى مدنهم وقراهم، والتي تقضّ مضاجع اللبنانيين قبل غيرهم من المسؤولين السوريين وحكومات الدول المضيفة لهم في الجوار السوري أو العالم.
ليس مستحسَناً تجاهل هذه المعادلة الخطيرة التي زادت على ما في الملف من تعقيدات محلية وإقليمية ودولية. بل إنّ الشعور بالخوف والقلق مشروع الى حدٍّ بعيد، فقد تحوّل هذا الملف ورقةً مهمة في الأسواق التي يتبادل فيها اطراف النزاع المشاريع المستقبلية حول جغرافية سوريا الجديدة ونظامها ودستورها وشكلها.
فوجود سبعة ملايين سوري نازح خارج الأراضي السورية (ومن بينهم مليون ونصف مليون في لبنان ومليونان في كل من تركيا والأردن) وما يقارب الخمسة ملايين في الداخل السوري يزيد الأمور تعقيداً وخطورة.
وعندما يتوقف المراقبون امام حجم هذه الأرقام لا يسعهم سوى التعبير عن ردّة فعل العالم تجاه هذه المعضلة الخطيرة، فهي أرقام تهتزّ لها الحكومات بمَن فيها الساعية الى إبعاد «الكأس المرة» عن اراضيها او تلك الساعية الى تسخير هذه الأرقام في المشاريع والخطط السياسية والعسكرية.
فيما ينظر آخرون الى النازحين على أنهم مدار جذب للمساعدات الدولية واستقطاب للدعم الدولي الذي تحتاجه الدول والمجتمعات المضيفة، وهو امر استثمرته الحكومتان الأردنية والتركية الى الحدود القصوى فيما بقي لبنان قاصراً عمّا حققته الدولتان من مساعدات دولية خفّفت كثيراً من التردّدات السلبية لوجودهم على اراضيها لأكثر من سبب.
ولعلّ أبرزها ما يتعلّق بالتجانس الديني بين المجتمع المضيف والنازحين والقدرات المتوافرة لدى هذه الدول وطريقة تعاطيها مع نزوحهم فحصرتهم في مخيمات بعيدة من مدنها وقراها بدلاً من انتشارهم على آلاف المخيّمات العشوائية كما حصل في لبنان.
وبعيداً من كل هذه الوقائع، فإنّ الربط المنطقي بين هذه العناصر كافة يقود الى إلقاء الضوء على فشل الحكومة اللبنانية في توحيد الرؤية والموقف اللبنانيين من المعضلة فتعدّدت المقاربات التي لم تنتج حلّاً ولا مخرجاً لأزمة النزوح. فارتفعت الخسائر في سبع سنوات الى ما يزيد على 19 مليار دولار على الإقتصاد اللبناني بقطاعاته المختلفة فيما لم يتلقَّ البلد المضيف ما يزيد عن 20 % من حاجاته لمواجهة كلفة وجودهم ومواجهة الآثار التي خلّفها النزوح على مختلف مناحي الحياة اليومية.
وانطلاقاً ممّا تقدّم، ليس من السهل التوصّل الى سيناريو موحَّد يمكن أن تلجأ اليه الحكومة اللبنانية لمواجهة هذه الأزمة وقد تعدّدت مشاريع الحلول التي لم يتحقق منها شيء الى اليوم وانقسم أهل الحكم والحكومة في المواجهة الأخيرة مع المجتمع الدولي. وما زاد في الطين بلة أنّ الإجراءات السورية الأخيرة جاءت لتزيد الأزمة عمقاً. فالقانون الرقم 10 الخاص بآلية تأكيد السوريين ملكيّتهم للأراضي في مناطق حساسة كشف عمق الخلاف بين النظام وبعض حلفائه ولا سيما منهم الروس الراغبين بتأكيد اهمية عودة السوريين الى مسقط رأسهم دون أيِّ تغيير ديموغرافي يجري منذ اربع سنوات.
وفي التفاصيل يتوقف المراقبون عند مشاريع عزل مناطق سورية عن أخرى لمجرد انتماءات ابنائها المذهبية او القبلية والعشائرية والإتنية وهو ما قاد بعض اللبنانيين الى ملاقاة النظام السوري بمشاريع عودة غير مكتملة وبشروط سياسية انقسم حولها اللبنانيون لمجرد انها تعطي النظام أولوية الموافقة على برامج العودة الجماعية بدلاً من ترك الحرية للنازحين بالعودة الى مناطقهم طوعاً كما كانت ترغب بعض القوى اللبنانية والدولية، فتعثرت المساعي ووقعت المنظمات الأممية اسيرة هذه التجاذبات وضاع المنطق الدولي المعتمد في مثل هذه الحالات واتُّهمت المنظمة الدولية بتطبيق برامج التوطين خارج الأراضي السورية وفي لبنان تحديداً، وهو امر يثر خلافات لبنانية بينية لا تُحصى نتائجها لمجرد التلاعب بالديموغرافيا اللبنانية.
وامام هذه الصيغة المركّبة والمعقّدة التي باتت تتحكّم بملف النازحين السوريين في لبنان تتوالى التوضيحات الدولية تزامناً مع ردّات الفعل الغاضبة من الإتّهامات اللبنانية للمجتمع الدولي والممثلين الأمميّين من دون جدوى. فبعد تأكيدات المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي خلال لقائه وباسيل في جنيف «أنّ العودة الطوعية هي دائماً أفضل حلٍّ لأيِّ أزمة لجوء، وكذلك الخيار المفضل للاجئين» ولكن «عندما تسمح الظروف بذلك».
فقد جاءت مواقف ممثلة المفوّضية في لبنان ميراي جيرار لتزيد الفجوة بين المجتمع الدولي ولبنان، خصوصاً عندما انتقدت غياب «السياسة اللبنانية الموحّدة» مؤكِّدة رفضها كلّ اتّهام بقولها: «إنّ المفوضية لا تقرّر عن اللاجئين، ولا تشجّع على إرساء المخيمات في لبنان لأنها لا تحفظ كرامة اللاجئ».
وأضافت بما يمكن اعتباره مزايدةً على موقف لبنان وبعد تقديرها «لمخاوف السلطات اللبنانية من تكرار تجربة اللجوء الفلسطيني»، بـ «أنّ 90 في المئة من اللاجئين السوريين في لبنان يريدون العودة إلى بلدهم، وأنّ وضع هؤلاء يزداد سوءاً يوماً بعد يوم».
وبناءً على ما تقدّم، وقياساً على حجم المواقف المتناقضة في لبنان والتعقيدات التي تعوق العودة الى سوريا برزت المعادلة التي تقول، إنّ فقدان السياسة اللبنانية الموحَّدة جعلت ثلاثة أطراف تقرّر وتنفّذ سياستها في لبنان: إثنان منها يترجمان الإنقسام الحكومي حول الملف بالإضافة الى «حزب الله» الموجود في سوريا وله نظرة مغايرة عنهما.
وكل ذلك من اجل إعادة السوريين الى خمس مناطق نفوذ مختلفة ولكل منها طريقته في التعاطي مع النازحين الراغبين بالعودة واحدة للنظام في دمشق والمدن الكبرى ومحيطها، وثانية للأتراك في الشمال - الغربي للبلاد وثالثة للأكراد والأميركيين في شمال - شرق البلاد ورابعة للروس على امتداد الساحل السوري وخامسة تمتد على طول الحدود الأردنية - السورية والجولان المحتل والتي لم ترسُ بعد لمَن ستكون السيطرة فيها.
ولكل هذه الأسباب والمعطيات يبدو أنّ ملف عودة النازحين السوريين يحتاج لإكتماله فصولاً الى توحيد رؤية وموافقة «3 دويلات لبنانية» لكل منها قرارها حتى اليوم في شكل وتوقيت العودة الى «5 دويلات سورية» لكلٍّ منها مقاربتها لهذا الملف.
وفي انتظار التسويات الغامضة والمفقودة حتى اليوم فوجئت الأوساط المعنيّة بمساعي إعادة دفعة من نازحي عرسال الى القلمون بمعلومات عن موافقة القيادة السورية على إعادة 400 نازح سوري من اصل 3000، وهو ما يقدّم إشارةً أو نموذجاً عملياً الى حجم ونوعية التعقيدات المحتملة امام برامج العودة.