شعوب كثيرة انتصرت على أزماتها من خلال شد البطون والتقشف والاكتفاء بالضروري والاستغناء عن الكماليات. وهو ما يجب أن تفعله أية حكومة تخطط لإنقاذ الأردن.
 

بالرغم من أن أجهزة الأمن الأردنية حاولت الإيحاء بأن هناك جهات خارجية تقف وراء التظاهرات التي شهدتها العاصمة عمّان ومدن أخرى من خلال الإعلان عن إلقاء القبض على ثمانية أشخاص يحملون جنسيات عربية كانوا ضمن المتظاهرين، فإن بيانا رسميا من الحكومة الأردنية لم يصدر بذلك المضمون ولا بما يوحي به. كانت إشارة رجل الأمن في مؤتمره الصحافي عابرة ولم يلتفت إليها أحد.

الحكومة التي أقيلت اعترفت بعجزها عن حل الأزمة. أما حكومة عمر الرزاز البديلة فإنها سحبت قانون الضرائب فعطلت انفجار القنبلة. الثابت في الأمر أن الأردن باعتباره بلدا بموارد قليلة معرّض باستمرار للاضطراب بسبب أزماته الاقتصادية التي لن تحل بشكل جذري من خلال إطلاق قوانين ومن ثم سحبها. المشكلة هي أبعد وأكثر عمقا من ذلك.

حين سحب الرزاز قانون الضرائب تم الاعتراف بأن الحكومة السابقة كانت على خطأ حين أقرت ذلك القانون. غالبا ما تخطئ الحكومات حين تسعى إلى حل المشكلات الاقتصادية على حساب الفقراء، وهم يشكلون الجزء الأكبر من الشعب الأردني. وأنا على يقين هنا من أن مترفي الأردن لن يعترفوا بتلك الحقيقة، بالرغم من أن كل الأرقام والإحصائيات تؤكدها.

أقصد هنا الناتج والدخل القوميين، ميزان الصادرات والواردات، حجم الدين العام، العجز السنوي في الموازنة التي هي فقيرة أصلا، وأخيرا حجم المساعدات التي يتلقاها الأردن لأسباب كثيرة، من بينها تكفله الكريم باستضافة أعداد هائلة من اللاجئين عبر الثلاثة عقود الماضية.

كل تلك الأرقام والإحصائيات يمكن أن تضع الأردن في مصاف الدول الفقيرة. غير أن تلك الصفة إن قيلت من قبل كاتب عربي ستغضب بعض الأردنيين. لا بسبب أنها تحرجهم حين تضعهم في مواجهة الحقيقة التي هي بيت الداء، بل لأنها تجرح مشاعرهم.

وهو ما لا تفعله الشعوب التي تتمتع بحس ديمقراطي يرتقي بها الدافع الوطني إلى مستوى الاعتراف بالظاهرة الواقعية، من غير أن يدخل ذلك الاعتراف في نطاق الخصومات والتأويلات الشخصية.

لقد كتبتُ في مقال سابق أن الأردن تسود فيه ثقافة استهلاكية خاطئة، لأنها لا تتناسب مع وضعه الاقتصادي الحقيقي. شعوب كثيرة انتصرت على أزماتها من خلال شد البطون والتقشف والاكتفاء بالضروري والاستغناء عن الكماليات. وهو ما يجب أن تفعله أية حكومة تخطط لإنقاذ الأردن من أزماته المستديمة.

أغضبت كلماتي البعض من الأردنيين. إما لأن ذلك البعض فهم الأمر بطريقة سيئة، أو لأنه ينتمي إلى الطبقات الطفيلية التي تعيش على هامش الحياة، متخيلة أن الأردن هو مجرد فنادق فارهة ومجمعات تجارية وسيارات فاخرة وهواتف ذكية ومطاعم يكلف ارتيادها لمرة واحدة راتبا شهريا يتقاضاه الموظف الأردني. وهو أمر لا يحتاج إلى برهان بالعودة إلى متوسط دخل الأردني الذي يكون سعيد الحظ إن حظي بدخل شهري ثابت.

ما كشفت عنه ردود الفعل الغاضبة تلك أن هناك شعبا يعمل في خدمة الحكومة (أية حكومة) لكي تمضي في تنفيذ مشاريعها التي تستند أصلا على نظرة استعلائية للواقع.

ذلك الشعب الذي تنتمي إليه الحكومة لا يمثل الشعب الذي خرجت شرائح كثيرة منه ذات مرة من أجل الخبز.

أعرف أن أردنيا شريفا ونزيها لا يقبل أن يكون الخبز موضوع مساومة بين الحكومة والشعب. غير أن ذلك البعض المعترض على كلام من هذا النوع لم يعد بسبب انفصاله عن الواقع قادرا على التفكير في ما يمثله الخبز من ضرورة على موائد الفقراء.

لقد دهشت من شعب يدافع عن حكومة اعترفت بعجزها عن الإصلاح إلا عن طريق إعلان الحرب على الفقراء، فصرت أفكر في شعب الحكومة بدلا من أن أفكر في الحكومة التي يجـب أن تضع نفسها في خـدمة الشعب.

أعتقد أن الكثيرين من العرب يدافعون عن حكومات دولهم، وهم يظنون أنهم في ذلك يدافعون عن أوطانهم. تلك معادلة قادت بلدانا عربية عديدة إلى الحضيض. ولا أظن أن الأردنيين في حاجة إلى مَن يذكرهم بأحوال جاريهم الكبيرين، العراق وسوريا. علينا أن نتذكر دائما أن الأوطان شيء والحكومات شيء آخر.