كان عبدو يضرب علي الحجّي كلّما التقاه. كان يضربه مرّةً في الأسبوع على الأقلّ. وعبدو كان ضخم الجثّة وقويّاً يتباهى بأعمال تكاد أن تكون خوارق. فهو، مثلاً، وبقوّة يديه وكتفه، تصدّى لسيّارة كاد سائقها الغشيم يدهورها في الوادي فأنقذها. وهو سبق أن ضرب ثلاثة دركيّين حاولوا أن يمنعوه من إيقاف سيّارته في مكان يُمنَع وقوف السيّارات فيه. أهمّ من ذلك أنّ عبدو كان الوحيد الذي تحدّى مرعب بيك الذي عُرف عنه أنّه يُخيف منطقة بأكملها، بحيث اضطرّ مرعب إلى إطلاق الرصاص بين رجليه فيما هو هاجمٌ عليه. أمّا المرّة الوحيدة التي تمكّن فيها علي الحجّي من أن يخدش خدّ عبدو بظفره فهي المرّة التي كسر فيها عبدو ضِلعيْن له بحيث نُقل علي الحجّي إلى المستشفى.
والحجّي شخص عاديّ. عاديّ جدّاً. معتدل الطول ومعتدل العرض، والصفة الوحيدة التي تميّزه هي سِنّه الذهبيّة التي كان عبدو يتّهمه بأنّه سرقها من رجل غنيّ احتضر ومات بين يديه. الناس كانوا يصدّقون عبدو لأنّه مثال القبضاي الشهم والمستقيم الأخلاق قياساً بعلي الحجّي الذي اعتبروه أُلعباناً لا يستحقّ ثقتهم. مع هذا، وربّما توخّياً للأمانة أو للتوازن، كانوا كثيراً ما يضيفون: لكنّ علي الحجّي ذكيّ فيما عبدو عقله مثل عقل الدجاجة.
ورأي الناس هذا كان يقودهم إلى تفهّم عبدو وأفعاله من غير أن يخلو الأمر من تحفّظات ومخاوف. فعلي الحجّي، في عُرفهم، يستحقّ أن يُؤدَّب بين حين وآخر. مع هذا، فهم كثيراً ما احتجّوا على إفراط عبدو في ضربه: «ليس إلى هذا الحدّ» كانوا يقولون، «فهو يكاد يقتله». وكان ما يعزّز تردّدهم أنّ أحداً لم يعلم بالضبط لماذا كان عبدو يضرب علي الحجّي مرّة في الأسبوع على الأقلّ. فالمعروف أنّ معركتهما الأولى نشبت في مقهى القرية بعد مشادّة على طاولة قمار: عبدو اتّهم الحجّي بأنّه يغشّ فصفعه وأمعن في صفعه حتّى أغمي عليه، ثمّ انقطعت العلاقة بينهما وتوقّف الكلام. فكيف إذاً ظلّ يضربه، ولماذا؟
مَن كانوا يلحّون في سؤال عبدو عن السبب كانوا يقعون على جواب تصاعديّ نادراً ما أقنعهم. في البداية، كان يقول إنّ عائلة الحجّي كلّها بلا أخلاق، باستثناء أخيه الأكبر مصطفى. أمّا أخوه مجيد فيفوقه رذالةً، لكنّه، لسوء حظّ عبدو، يعيش بعيداً في طرابلس، فلا يتيح له الفرصة كي يفعل به ما يفعله بأخيه. بعد أشهر، صار عبدو يفسّر سبب ضربه لعلي الحجّي بموالاة الأخير للبكوات الذين «يمصّون دماء الفلاّحين». وكان عبدو يستطرد أحياناً فيقول إنّ أباه «المتمرّد على الإقطاعيّين» كان هو الآخر يضرب والد علي الحجّي الذي كان أيضاً من «أزلام البكوات». «إنّه شيءٌ في دمهم»، كما كان يضيف. لكنْ ما أن أمّم جمال عبدالناصر قناة السويس وتعرّض لـ «العدوان الثلاثيّ»، حتّى صار عبدو يفسّر ضربه لعلي الحجّي بتعاطف الأخير مع «العدوان الثلاثيّ». فالحجّي، الذي بالكاد يعرف القرى المجاورة، هو، وفقاً لوصف عبدو، «عميل إنكليزيّ وفرنسيّ وإسرائيليّ وابن حرام» في وقت واحد.
في 1958، حين نشبت الحرب الأهليّة الصغرى، توقّف عبدو عن ضرب علي الحجّي لسبب بسيط. ذاك أنّ علي وعائلته تركا المنطقة التي بات يحكمها عناصر «المقاومة الشعبيّة» من أصدقاء عبدو، وانتقلا إلى السكن في جبل لبنان. «لقد اختبأ عند أسياده»، كما بات عبدو يقول. بيد أنّ الفرحة بانتهاء الحرب المذكورة لم تكتمل. فعلي الحجّي وعائلته عادا إلى القرية وعادت المواجهة الدوريّة بينه وبين عبدو. ولئن استمرّ الأخير في ضرب الأوّل، مرّةً في الأسبوع على الأقلّ، فإنّه بات ينسبه إلى «المكتب الثاني». «هكذا هو علي الحجّي»، بحسب عبدو، «في عهد شمعون هو شمعونيّ، وفي عهد شهاب هو مع المكتب الثاني».
وبات أهل القرية حين يرون علي الحجّي يسير مسرعاً يعرفون أنّه لمح عبدو من بعيد، وأنّه يهرب منه ومن ضربه المؤكّد. والحال استمرّت على هذا النحو سنةً بعد سنة إلى أن وقعت الحرب. لكنْ فجأة ومن غير سابق إنذار، صار عبدو وعلي الحجّي صديقين. السبب الذي جعلهما هكذا بقي غير مفهوم بتاتاً، حتّى أنّ جميع مَن في القرية تعاملوا معه بوصفه لغزاً. الذين كانوا يسألون عبدو عن سرّ الصداقة الجديدة كان يجيبهم بحكمة وتعالٍ غير معهودين فيه دائماً، ثمّ يضيف عبارة من نوع «كنّا أولاداً طائشين في الماضي»، وأحياناً كان يقول: «إنّ علي الحجّي تغيّر، ومَن الذي لا تغيّره حرب كهذه؟!». أمّا علي فبدوره كان يبتسم، وإن بدت بسمته من النوع الخبيث المتعدّد المعاني، وفي مرّات كان يضيف بصوت منخفض: «إنّ الحرب كبّرت عقل عبدو».
أهل القرية صاروا يتصرّفون كما لو أنّ هذه الصداقة التي لا يفهمون سرّها تزعجهم. ويوماً بيوم راح الإزعاج ينمو إلى أن صار قلقاً. بعضهم حاول المضيّ في تحريض عبدو الذي لم يتجاوب مع التحريض، ومنهم مَن اندفعوا إلى تسييس التحريض ظنّاً منهم أنّ عبدو لا يتواطأ مع ما يراه انحرافاً وزغلاً في السياسة. جعلوا، مثلاً، يقولون له: «علي الحجّي يحبّ الكتائب يا عبدو»، غير أنّ الأخير كان يبتسم ابتسامة الأخ الأكبر الذي يتسامح مع الأفعال الشاذّة لأخيه الأصغر، أو ابتسامة المُعجَب بغرابة علي الحجّي وبتحوّلاته التي لا يقوى عليها سواه. وهم لم يكن في وسعهم أن يمتدحوا أخلاق علي الحجّي وأن يعتبروها هي السبب في هذا السلام الشامل الذي يقضّ مضجعهم. هكذا صاروا يردّون السبب، بشيء من المرارة، إلى هرمٍ وشيخوخةٍ أصيب بهما عبدو وجعلاه أشدّ حكمة ممّا يجب. آخرون صاروا، حين يأتون على ذكر ما تتسبّب به الحروب من نكبات، يُدرجون في هذه الخانة السِلم الوحيد الذي أنجبه ذاك الزمن الحربيّ.
وعلى هذا النحو استمرّت الأمور لسنوات حُسبت، في عمر القرية، سنواتٍ باردة بلا حرارة ولا حدث. لكنّ وفاة علي الحجّي المفاجئة خلطت بعض أوراقهم المشوّشة. فثمّة مَن همس لبعض أقاربه بأنّ علي مات إمّا مسموماً أو مخنوقاً، مع التلميح بأنّ عبدو قد يكون الفاعل. ومع أنّ عبدو، الذي لا يبكي في العادة، بكى في جنازة علي الحجّي، فقد أصرّ المشكّكون على أنّ عبدو ممثّل بارع، وأنّهم اكتشفوا متأخّرين موهبةً فيه لم يكونوا على بيّنة منها. لقد بدا أهل القرية على استعداد لأن يقولوا كلّ شيء يتوهّمون أنّه يُفهمهم ما لم يفهموه، وكي تبقى الأحداث وفيّةً لرغبتهم التي استمدّوها من مألوف قديم. أمّا عبدو، فانكفأ في بيته، لا يَرى ولا يُرى، يُثقل عليه حزنه بموتى بات عددهم كبيراً.