يتبادل عددٌ من أركان الطاقم السياسي اتّهاماتٍ بالسعي إلى تدبير الصفقات. وفي الغالب هي تتعلق بالنفط والكهرباء والاتّصالات والاستيلاء على المرافق والأملاك العامة والإدارات والمؤسسات. لكنّ «بئر النفط» الحقيقية والأقرب منالاً لطاقم السلطة والمال اللبناني ليست واقعة غرباً في عمق البحر، بل شرقاً في العمق السوري.
الحربُ السوريةُ الكبرى انتهت. وما يجري اليوم ليس سوى المناوشات التي ستقود إلى رسم سوريا الجديدة. والثروة التي يتهافت عليها المستثمرون ورجال المال والأعمال هي تلك المتعلقة بإعادة بناء سوريا. ويحاول كثير من اللبنانيين أن يحجزوا أمكنةً لأنفسهم في الورشة العملاقة الآتية.
الكلفة المقدّرة لإعادة بناء سوريا، كما أعلن الرئيس بشّار الأسد، تقارب الـ 400 مليار دولار، على مدى يراوح ما بين 10 أعوام و15 عاماً. ويتضاعف هذا الرقم إذا شمل البنى التحتية وقطاعات البترول والكهرباء والصناعة والزراعة والمال والسياحة والخدمات وسواها.
ولأنّ الروس يمتلكون جزءاً كبيراً من المبادرة السياسية والعسكرية في مناطق نفوذ الأسد، فإنهم أيضاً يمتلكون جزءاً كبيراً من المبادرة في إعادة الإعمار. وقد بدأوا تنفيذَ المراحل الأولى من مشاريعهم، خصوصاً في مجالات الطاقة، حيث ينافسون الشريكَ التقليدي في سوريا، أي إيران.
وفيما تتنافس الشركاتُ الأميركية والأوروبية والتركية والصينية على تقديم عروضها، تبرز مشكلةٌ أساسية أمام المشارَكة العربية. فالكتلة المالية الكبرى، أي الكتلة الخليجية (السعودية والإماراتية خصوصاً)، تجد صعوبةً في دخول المعترك بسبب التنافر السياسي القائم بينها وبين نظام الأسد.
لذلك، هناك طريقان يعتمدهما الخليجيون العرب لتجاوز هذه الأزمة:
1- إنفتاحُهم على روسيا والاعتراف بدورها الأساسي في سوريا، سواءٌ على المستوى السياسي- العسكري أو على المستوى الاقتصادي. فموسكو قادرة على أن تشكّل البديلَ المنطقي للنفوذ الإيراني في سوريا، بل هي الكفيلة بوضع حدّ له بأقلّ ما يمكن من أضرار.
ومن هنا التقاربُ المتنامي في السنوات الأخيرة بين العهد السعودي والرئيس فلاديمير بوتين، واعتراف الرياض بالرعاية الروسية للحلّ السياسي في سوريا.
2- دخولُ الخليجيين إلى السوق السورية من خلال شركات عربية مختلفة. وفي هذا الإطار، ينخرط مستثمرون سعوديون وإماراتيون في شركات مصرية وأردنية وعراقية أخذت حصصاً مهمّة من عمليات إعادة الإعمار.
وهؤلاء المستثمرون يشكّلون عاملاً ضاغطاً في داخل المجموعة الخليجية لمصلحة الخيارات التسووية في سوريا. فما يهمّ المستثمرين دائماً هو أرضيّة الأمن والاستقرار، وأما الخياراتُ السياسية فتأتي في الدرجة الثانية.
وهنا يبرز دورُ المستثمرين اللبنانيين، وغالبيتهم اعتادت على أن تكون مرتبطةً بالخليج العربي، وهي إجمالاً تقيم علاقةً وطيدةً مع المستثمرين الخليجيين. فالاقتصادُ اللبناني أساساً محميّ بالدعم الخليجي.
القوى اللبنانية المنفتحة على نظام الأسد، والمستثمرون الذين يدورون في فلكها، بدأوا الانخراط سريعاً في عملية إعادة الإعمار السورية. وأما الآخرون، المحسوبون سياسياً على المحور الخليجي فبدأوا يتدبّرون أمورَهم بالانفتاح على حلفاء دمشق. وهنا يكمن أحدُ أسرار الصفقة التي تمّت في نهايات 2016.
وافق الرئيس سعد الحريري على تبنّي ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية (أقرب الأقربين إلى الأسد في لبنان) لرئاسة الجمهورية، لأنّ حساباته كلها أملت عليه ذلك. ثمّ وافق على البديل، أي الرئيس ميشال عون، من ضمن الخطّ السياسي نفسه.
ومفاعيلُ هذه الصفقة ساريةُ المفعول تماماً في بيروت، من خلال التقاسم الناجح للمكاسب في قطاعات النفط والكهرباء والاتصالات والتعيينات وسوى ذلك… لكنها أيضاً سارية المفعول في الملفات المتعلّقة بسوريا، من النازحين إلى التجنيس إلى التنسيق اللبناني- السوري. ويرى كثيرون أنّ التنسيق سيشمل أيضاً ملفاتِ إعادة الإعمار في سوريا.
يعتقد البعض أنّ عدداً من الأسماء الواردة في مرسوم التجنيس، الذي وقّعه وزير الداخلية ورئيسا الحكومة والجمهورية، من شأنها أن تفتح أبوابَ الاستثمار للجميع في سوريا.
ويعتقد البعض أيضاً أنّ تسليط الضوء بقوة على ملفّ النازحين، بهذه الطريقة التي لا عودة فيها إلى الوراء، سيقود إلى خيار واحدٍ وحيدٍ هو: فتحُ قنوات الاتّصال مع نظام الأسد حول الملفّ.
كما أنّ إثارة مسألة المعابر وأمن البقاع والوضع الاجتماعي والأمني لمخيمات النازحين في المنطقة ستفرض التعاونَ مع الجانب السوري للمعالجة.
ستكون العناوينُ كلها مطلوبةً لتبرير إقامةِ اتّصالٍ بين بيروت ودمشق على مستوياتٍ سياسية عالية. وفي آب الفائت، زار وزراء من 8 آذار دمشق رسمياً والتقوا نظراءَهم السوريين، وأثمرت هذه الزيارات تأكيداً للتعاون واتّفاقاً على أن يقوم النظراءُ بردّ الزيارة لبيروت لاحقاً. وحينذاك، أغمض الحريري وحلفاؤه أعينهم عمّا يجري معلنين أنّ الزيارات تتّخذ طابعاً شخصياً وأن لا غطاءَ رسمياً لها.
ولكن، في الحكومة العتيدة، لن يكون هناك مجالٌ للتهرّب من الواقع. فالملفاتُ المفتوحة اليوم، كالنازحين والتجنيس، إضافة إلى ملف الكهرباء والترانزيت عبر سوريا، ستفرض تنسيقاً مباشراً وواضحاً مع نظام الأسد. ولا يبدو القيّمون على الصفقة منزعجين من هذا الانفتاح، لكنهم يريدون إمرارَه هادئاً، وبما يحفظ لهم ماءَ الوجه.
لذلك، وبالتأكيد، كان لقاءُ الحريري ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل أيام، أكبر من مجرد «سيلفي». إنه من علامات المرحلة الآتية في لبنان وسوريا.
ويكتسب لبنان أهمّيةً في إعادة إعمار سوريا بسبب موقعه الجغرافي المميّز على المتوسط وبين دول المنطقة وقرب المسافة بين مدنه والمدن السورية. ولذلك، سيكون لتطوير البنى التحتية اللبنانية والمطارات والمرافئ في لبنان دورٌ في إعادة بناء سوريا. وسيستفيد ذوو السلطة من عمليات التطوير أيضاً.
كما أنّ العنصر البشري مؤهَّل لجعل لبنان قاعدة انطلاق للشركات العربية والأجنبية في إعادة إعمار سوريا. وثمّة حرص على الاستقرار اللبناني، أمنياً وسياسياً، لتأمين هذه الأرضية للمستثمرين. وعلى الأرجح، ستكون هناك رشاوى دولية للبنان لتخفيف اعتراضاته في مسألة النازحين وسواها.
في كل هذه المعمعة، ما يريده بعضُ المعنيين بالسلطة هو استخدام عامل الإعمار لإعادة بناء مواقعهم التي تراجعت عبر الزمن في بيروت، في السياسة كما في الاستثمارات. ولبنان، بطبيعته، جنّة استثمارية لأنها تكاد تعفي المستثمرين الكبار من الضرائب، وتعمّ فيها الفوضى والهدر والفساد.
إذاً، على خط بيروت- دمشق، هناك نازحون… تقابلهم ملياراتُ إعادة الإعمار. والمقايضاتُ مفتوحة، بل الابتزاز!