نتعلم، نبحث ونختار اختصاصاً نحبه نرى فيه انعكاس شخصيتنا. ولكن في الآونة الاخيرة انتشرت فكرة سائدة عند بعض الاشخاص إذ جلّ ما يريدون فعله هو تقديم مشروع التخرج على عجالة لتخطي مرحلة الجامعة. مشروع التخرج قد يكون فرصة للتلميذ ليعبر عن أفكاره ومنها اختصاص الاعلام وخصوصاً "صناعة الافلام". وشخصياً لقد عشت هذه التجربة وما أروعها! رحلة تسمح لك لتظهر ما في داخلك من خلال دقائق قليلة تعرض أمام آلاف المشاهدين.
لقد استوقفني مؤخراً فيلم " Cleft" أي شق، هو مشروع تخرج من كتابة أحمد طه، مدير التصوير حسين فحص، اخراج محمد مهدي مدلج وزيّن هذا العمل صوت الممثل اللبناني حسام الصبّاح. ثلاثة شبان عملوا على ترجمة افكارهم التي تملكتهم لسنين الى فيلم قصير مدته ٧ دقائق ونصف دقيقة. "في هذا العمل تحديداً، نحن لم نقدّم فيلماً، بل قدمنا حياتنا، واقعنا، هذا ما يشبهنا" هذا ما قاله مدير التصوير بعد انتهاء العرض. وتجري كل أحداث الفيلم في مبنى في الجنوب. نشاهد مجريات القصة مصوّرة من خلال تشققات حائط هذا البيت الذي تُرك وحيداً بعدما قصف في حرب التحرير عام 2000. هذا الشق في أغلب الاوقات يخفي نصف الشخصية مما يولد شعوراً من "الحشرية" لدى المشاهد. فالحوار المميز بين الشخصيات لم يكن التجربة الاولى لكاتب هذا العمل لكنها الانجح لأنه استطاع ان يصل الى احساس كل مشاهد وأجبره على متابعة الفيلم بتشويق من بدايته حتى نهايته من دون ان ننسى تفاعل اللجنة مع مشاهد الفيلم مما دفعها لاختياره بين كل الافلام التي عرضت ليصل الى المهرجانات السينمائية. واختير هذا المبنى لأنه يشبه المباني التي تنهار في بيروت مثل مبنى فسوح الذي انهار في الأشرفية عام 2012 ومنه قد استوحيت فكرة هذا العمل. تم تحويل مكان التصوير من مبنى متروك لمكان مليء بالحياة الى أن يستعيد حقيقته في الدقائق الاخيرة ليرينا حالة الانهيار التي تهدد العديد من المباني الاخرى ليعكس خطر انهيار المجتمع اللبناني في اية لحظة. تلك المباني ليست مجرد أحجار تنهار فهي قصص وذكريات لناس قد عاشوا سنوات من عمرهم في هذه البقعة الآمنة التي تسمى "بيت". أما القصة فهي تعكس صورة المجتمع اللبناني "البحت" من دون أي تجميل للواقع، بعيداً من كل المسلسلات اللبنانية التي لا تمت للواقع بصِلة. "البناية" الموجودة في الفيلم تتألف من أربعة أجزاء تعكس تعددية الطبقات في المجتمع: "أم فؤاد و بناتها الستّة، أبو جورج، مدحت وأم لؤي وابنها لؤي".
"لؤي" الشخص المهضوم العفوي الذي يعيش دور الصحافي كل يوم من خلال استعماله "ملعقة الخشب" الوسيلة المعتمدة للضرب عند الأم اللبنانية "كميكروفون" ليتمكن من نقل رسالته الإخبارية.
يطلق مخرج العمل شعار "الى العالمية" برسالة الى جميع الخريجين أن لا سقف للطموحات، كما يكشف الكاتب عن التحضير لفيلم آخر لن يقل نجاحاً عن Cleft” " في الأشهر القليلة القادمة.
"هذا الفيلم وغيره صوّر بإمكانيات قليلة جداً، فالإبداع لا حدود له" وفق قول مخرج الفيلم. فكل عمل لا يحتاج لإمكانيات مادية كبيرة ليبصر النور ولكنه بحاجة لدعم معنوي من المجتمع أولاً ومن المحيط حولنا ثانياً. فالشابات والشبان بحاجة لمن يؤمن في قدراتهم ليتمكنوا من بناء أحلامهم بثقة نفس لا تكسرها اي ظروف تعرقل تقدم المجتمع. من الضعف يولد القوة ومن مشاكل المجتمع تولد الافكار المبدعة. كفى تحطيماً لآمالنا. فنحن من نصنع الشيء من اللاشيء. كل فيلم نصوّره ستصل فكرته ومشاعرنا وافكارنا التي نحاول إخفاءها عن محيطنا يومياً لنتجنب نظرة الشفقة.
حان الوقت ليُفسح المجال امام القوة الشبابية لتعيش. اصبحنا مجتمعاً ميتاً نسيَ معنى السعادة والاستمتاع بهذه الحياة. حياتنا ستنهار يوماً ما مثلما انهارت تلك المباني التي تخبئ بين زواياها المبعثرة الكثير من القصص التي ستترجم مع الوقت الى أفلام تعرض أمام لجان تقييم ومهرجانات كبيرة لتصبح حديث البلد لاحقاً وقد تترك بصمة داخل كل مشاهد.