خاطب الرجلُ الغاضبُ الأمينَ العام لـ"حزب الله" سائلاً إياه ماذا يفعل هو وجماعته حيال العجز عن مواجهة أعباء السيول وتكاليف الحياة. وأعلن تفضيله "الدواعش الذين احضرهم الحزب" على النواب (...)، معقبا: "جميل السيد وغازي زعيتر يتحدثان عن خطة أمنية". وتابع غاضباً: "لو يقولان لنا من اين لهما هذه القصور؟!".
الغضب الطالع في فيديو يتم تداوله، يشير الى ضعف الرجل من البقاع الشمالي وعجزه ومدى حاجته الى سند. ويعتبر ان مرجعه الذي يعينه على ضعفه هو "الحزب" في شخص أمينه العام، هو المسؤول عنه وعن جماعته وليس الدولة، لذا يخاطبه ويشكو اليه أمره، وهو لا يشعر بأمان العهد القوي. كذلك لا يشعر برهبة هذا العهد القوي، ولا يخافه عندما يخرج سلاحه الثقيل، المحمي طبعاً من مرجعه، ويشن معاركه الخاصة، او عندما يقرر ان يحتفل مكتفياً بالأسلحة الخفيفة التي تزغرد ويصيب رصاصها الطائش الأبرياء.
السبب ان "الحزب" طرد الدولة المتخاذلة في الأساس واحتكر جماعته وربطها بما يقدّمه إليها من خدمات وامتيازات تغنيها عن الدولة.
الالتجاء الى حزب بعينه، ليس فريداً، لكن تمظهره واضح في بيئة الحزب الإلهي. فهو في كل لبنان يدمغ سلوك الشعب الضعيف، الذي لا يملك الا الشكوى لدى زعيمه. حتى عندما ينفجر خطابه، يبقى عاجزاً محتاجاً هذا الزعيم الذي صادر الدولة والطائفة والمذهب، واختصرها بشخصه او بفريقه السياسي، وانتشى بالقوة الفعلية، او استقوى بالقوة الوهمية على الآخرين بآخرين.
ليس أدل على ذلك الا ردود الفعل على تغريدة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، التي أصابت بوصفها العهد بالفشل منذ بداياته. فقد قامت القيامة وفتحت أبواب جنهم، ووصلت إلى حد أن وزيراً مستقوياً وصف كل من ينتقد العهد، بالخيانة العظمى.
فالموضة هذه الأيام لا نغمة لها الا العهد الذي يرشح زيتاً. هكذا يشيِّع من في "التيار الوطني الحر" وتكتل "الإصلاح والتغيير"، بعدما تحولا الى جماعة "لبنان القوي". فقد اكتشفا ان لا لزوم للحرية او الوطنية او الإصلاح، وتحديداً لا لزوم بعد اليوم للتغيير. فمن وصل، لن يرضى ان يترك الكرسي والامتيازات التي استردّها لبطانته الضيقة وليس لعامة الشعب الضعيف. ولكي تكتمل العدة، وبعدما اثبتت التجربة وجوب الاقتران بالقداسة، رشح الزيت، ولم يعد ينقص المعادلة الا القليل من الصواريخ. فقد اتضح ان اللبنانيين يفضلون الأقوياء على النزهاء. ويحسبون حساب قائد ميليشيا اكثر مما يرهبون قادة المبادئ التي لا تطعم خبزاً. والا لما كانت تغريدة من هنا او كلمة من هناك، سببا لتهديد السلم الأهلي.
كيف لا! ففي لبنان فردوس السلطة يجعل الحاكم حكماً. ويجعل القابضين على مقدرات البلد هم من ينددون بالفساد، ويجعل من يتباهى بالدويلة التي صارت أكبر من الدولة يطالب بخطة أمنية تحديداً حيث هو الحاكم الأوحد. ومن يحول دون تدخل المؤسسات الأمنية والقضائية في الجرائم التي تقع ضمن بيئته، ليحلّها وفق فتاويه، يبشرنا بأنه سيحيي دولة المؤسسات.
الانكى ان أكثر الواضعين مصالحهم الشخصية المعززة باستغلال المواقع السياسية ورضا أذرع المحور القابض على لبنان، هم أكثر المحاضرين في العفة السياسية، وأكثر الرافعين أصواتهم بالغيرة على المصلحة العامة وحقوق المواطن الذي يجب ان يشعر بالفخر والعز لأن هناك من ينتزع من فم الفريق الآخر مقاعد نيابية أكثر وحقائب وزارية أكثر.
ليس لأن جنبلاط اكثر شفافية من زملائه المتحكمين بسياسة لبنان، فـ"كلهم يعني كلهم"، ولكن لأن الادعاء عبر الاعلام ان الإنجازات أكثر من أن تحصى، وان النعيم آتٍ، وسيهبط على ارض لبنان لأن الاستثناء صفة العهد، في حين ان الشعب اللبناني "على الأرض يا حكم"، او هو ينزلق الى ما تحت الأرض.
هذه القوة الطاغية على الأداء السياسي، تكشف عوراتها وقائع الفساد الطافح في ملفات بواخر الكهرباء ومرسوم التجنيس وإمداد النظام الاسدي بشباب للخدمة العسكرية المجانية عبر همروجة إعادة اللاجئين التي تقتصر على مناطق بعينها وفئات بعينها، وحماية مبيّضي اموال تجارة المخدرات من لبنانيين منتشرين لدعم المشروع الإقليمي المقدس بالسيولة، ولن تنتهي بمسألة دخول الإيرانيين الى لبنان وخروجهم منه بدون تأشيرة رسمية، على اعتبار ان لبنان هو الباحة الخلفية للمشروع، ولا لزوم للتأشيرة عندما يدخل رجال المشروع الى باحاتهم الخلفية.
ربما هذه هي القوة الحقيقة الطالعة من الاستقواء والطموح، وتحديداً مع سياسة ماكيافيلية تصمت وتنزوي وتدع المشاريع القوية تستكمل.
وتفاءلوا بالخير تجدوه في الوعود بحياة كريمة للبنانيين، والتبجح بأن العهد القوي سيتحفنا بإنجازات تاريخية انقاذية، مع ان الشمس طالعة والناس قاشعة تقهقر أوضاع هذا الشعب المحروم ادنى مقومات العيش التي لن يحسّنها خروج لاجئين تحت أي ذريعة تبرر كل هذا الفساد المباح. والاناء لا ينضح الا بما فيه.