لم يَدع فولتير ركناً من أركان المجتمع إلّا وغاص في تفاصيله التي تشكّل نقطة ضوءٍ للانطلاق بأفكار جديدة، فانتقد الكنيسة والدين والحرّية المثالية المبالغ فيها، والأخلاق التي يسنّها البعض مجذافاً لسفينة الحياة ولكنّهم لا يعرفون كيف يبحِرون بها حقاً. تلك الروح الفكاهية اللاذعة قد جعلت منه معروفاً للنخَب ولعامة الناس على حدّ سواء.
في روايته «كنديد» التي وضَعها في منفاه، وهو الذي تعرّض للسجن مرتين بسبب معارضته للسلطات الفرنسية من أجل تماديه في الإشارات المبطنة عن السياسة في كتبه، يتناول فولتير جانباً إنسانياً مهمّاً في حياة الإنسان. إذ إنّ هذا الجانب يتخطّى حدود المشاعر ويقحِم نفسَه في الدين والسياسة، وهو معنى التفاؤل، فهو حسب تأكيده لنا من خلال سطور الرواية، التشاؤم هو سيّد الموقف بعكس ما يقول الفيلسوف الألماني ليبنتز الذي حملَ لواء التفاؤل، وقد ضجّ في عصر فولتير القول الشهير:» إنّ كلّ شيء هو أحسن ما يكون في أحسن ما يمكن من العوالم»، فبرهنَ لنا أنّ هذا القول لا أساس له من الصحة، وأنه محضُ خرافات.
«بنغلوس» هو بطل رواية فولتير، وكان دائمَ التفاؤل يعتنق مبدأ ليبنتز، ويؤمن به إيماناً عظيماً، يتعرّض لكلّ أنواع التشريد والتهجير والضرب والحروب الدامسة والتفريق عن حبيبته الرائعة الجمال، التي يجدها في نهاية الرواية بعد رحلة شاقة وقد أصبحت دميمةً للغاية من غير سبب، ولكنّه يتشبّث بمبدئه رغم كلّ الضنكِ والمهانة والألم. بعكس صديقه الذي يلتقي به في رحلاته الأليمة ويدعى «مارتن» الذي يعتنق مبدأ التشاؤم ولا يتنازل عنه ويبرهن لبنغلوس في عدّة مواقف أنّ الصور التي تتراءى لنا لأشخاص يبدون في قمّة السعادة والوئام، ما هي إلّا مظاهر خادعة تخفي وراءَها الكثير من بواطن النفوس المعذّبة.
يَمضي بنغلوس في رحلته بين البلدان في مغامرات ضيّقة الأفق تنتهي إمّا بأن يشرفَ على الموت أو يعاقب عقاباً شديداً أو يخسر الأموال التي جمعها، وكلّها حوادث تحفر في إزميل الصبر وترجم فكرتَه ولكنّه يتجلّد، إلى أن يدركَ في نهاية الرواية بأنّ التفاؤل يَكمن في العمل فقط وفي السعي الجدي من أجل الكسب.
لقد كاد فولتير بهجومه القاتم على التفاؤل، يقضي على نكهته والآمال التي تتجلّى من خلفه، وينتقد بأسلوبٍ جريء اللاهوت النصراني الذي ينصّ على التفاؤل ويسحق مبدأ ليبنتز بسخرية واستهزاء، وذلك بإظهاره في الرواية ما يطويه الكون تحت جناحه من ظلمٍ وحروب وفظائع بحقّ الإنسانية.
في الرواية أيضاً مطالبة من الكاتب بإلغاء امتيازات الإكليروس، وعدم المتاجرة بالنساء اللواتي اشتهرَت الكثيرات منهنّ في عصر فولتير التنويري، باحترافهنّ مهنة البغاء، وتدليلهنّ من قبَل الرجال الأغنياء في حياتهنّ، ومعارضة الكنيسة على دفنهنّ بعد مماتهنّ، والرواية تنوّه بتلك الظاهرة الأليمة، بالإضافة إلى الحروب التي لا ترحم الإنسان مهما قدّمت صورة مزخرفة طيّبة عنها، فالناس هم الضحايا وهم العبيد لتلك الحرب.
فولتير كاتبٌ حاذق، أتقنَ التنقيب في خلايا المجتمع الميتة العفنة، وقدح مرارتها، وتسريب جنونها المتسربل بأعتاب الظلام، فنجح وقدّم رغم كلّ الظلم الذي أحيقَ به في عصره، صورةً حيّة عن بيئته وعصره وزمانه، كان برجوازياً قضى على الفرق بينه وبين طبقة الأشراف بالغنى المترف الذي عاش فيه، ولكنّه كتب عن الفقراء وجروحهم وغصّاتهم التي لا تكاد تُسمع، ولم يستثنِ أحداً من نقده، وجاءت رواية كنديد تصديقاً على شخصيته في احتوائه لقارورة الحرّية التي فُتحت سدّتُها على إشراقة النور والحقيقة الساطعة.