على الرغم من ان العديد من الدول بدأت تتحرّك في اتجاه مكافحة الفساد، فإن تحقيق تقدّم في هذه المهمة لا يزال بطيئًا، سيما في البلدان الاكثر مواجهة للحروب والصراعات. وقدّرت الخسائر الاجمالية في العالم جراء الرشاوى وسرقة الاموال العامة بحوالي ١٢ تريليون دولار العام الماضي. كذلك فان تحقيق التنمية المستدامة في البلدان العربية يتطلب مبالغ اضافية قدرها ٥٧ بليون دولار سنويًا حسبما ذكر المنتدى العربي للبيئة والتنمية. وذكرت مجموعة من الاقتصاديين ان ثمن الفساد في الدول العربية يتراوح بين ٢ الى ٣ بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي يما يعني ان ما يتراوح بين ٦٠و٩٠ مليار دولار تفقد نتيجة الفساد والرشوة.
ومن الطبيعي ان يكون الفساد حجر عثرة ومكافحته وحدها تستطيع توفير الاموال التي تحتاجها الدول لسد النقص وتحقيق اهداف التنمية المستدامة واعادة اعمار الدول. كذلك فان مكافحة الفساد شرط اساسي لجذب الاستثمار الاجنبي والدعم الدوليين واي هدف لتحقيق التنمية المستدامة يبدأ بمحاربة الفساد من اجل انجاح الخطط الرامية الى ضمان نمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتحسين الادارة. كلها امور باتت واضحة للعيان ولا تتطلب فلسفة ويساعد في ذلك تحركات البنك الدولي والمؤسسات الحكومية والتي تساعد بطريقة او بأخرى لتأمين الشفافية والحكم الرشيد.
منذ بداية الحرب الباردة، بدأ المجتمع الدولي وبجدية، مكافحة الفساد على المستوى العالمي. وقد أحرز تقدما لا يُستهان به، قد يكون اهمها القوانين واللوائح والالتزامات التي قدمتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي OECD كذلك اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الرشوة ومنظمات مثل Global witness و Transparency International والتي تمكّن المجتمع المدني من المسألة وتزيد من مسؤولية الحكومات في جميع انحاء العالم. وهنالك طرق عدة لمكافحة الفساد ونذكر منها البعض علمًا انها مسؤولية وطنية تحتاج الى تعبئة عامة. واليكم بعض الافكار عن كيفية القيام بذلك.
١- المساءلة: الفساد هو عارض وليس سببًا ويتعيّن علينا ان ننظر في ايجاد سبل لبناء المساءلة تجاه اولئك الذين يمسكون بزمام السلطة والتأكد من إن صوت المجتمع مسموع، وايجاد الضغط الاجتماعي على صانعي القرار بما يجعل المساءلة اسهل.
٢- دفع اجور كافية لموظفي الخدمة المدنية: وهذا الأمر تعرضنا له سابقًا سيما عندما استعرضنا دراسة روز اكرمان (١٩٩٨) والتي تطرقت الى موضوع الاجور وكونها تؤثر بشكل عام على الدوافع والحوافز. وقد اجرى ويدر و Rijckeghen٢٠٠١ بعض الابحاث التجريبية التي اوضحت وفي عينة من البلدان الاقل نموا ان هناك علاقة عكسية بين مستوى الاجور في القطاع العام وتفشي الفساد.
٣- الانفتاح في الانفاق الحكومي، سيما المخصصات خارج الموازنة والتي تخضع لسيطرة السياسيين والاعفاءات الضريبية والتسهيلات الائتمانية وهذه العمليات يجب ان تكون اكثر انفتاحًا وشفافية لتقلّل من وقوع المخالفات والاستغلال. كذلك فان قدرة المواطن على فحص انشطة الحكومة ومناقشة مزايا السياسات العامة المختلفة له اثره. وفي هذا الصدد فإن حرية الصحافة وانخفاض مستوى الجهل ومجتمع مدني ناشط لهم تأثيرهم. وتعدّ نيوزيلندا، وهي واحدة من افضل البلدان اداء في عنصر الشفافية، رائدة في هذا المضمار ومثالًا يحتذى سيما بعد ان وافقت عام ١٩٩٤ على قانون المسؤولية المالية الذي وفر اطارًا قانونيًا لادارة للموارد العامة.
٤- التعلم من دول الـ BRICS اذ انه وفي الهند على سبيل المثال هنالك شركة حولت قدرة المواطنين على مساءلة الحكومات وقد استخدمت هذه الشركة RTI قدراتها لجمع المعلومات وحددت الفساد حتى في دورة العاب الكومنولث في نيودلهي. أهمية هذا النوع من المبادرات هي الابتعاد عمّا يسمى «مقاسا واحدا يناسب الجميع» والذي أحبط العديد من جهود الدول الغربية في مكافحة الفساد كان له تأثيره الكبير.
٥- عقد اتفاقيات دولية كون الفساد في الاقتصاد المعولم عابر للحدود وعلى نحو متزايد فإن الاطار الدولي لمكافحة الفساد يشكل عنصرًا اساسيًا ضمن الخيارات المتاحة امام الحكومات وقد يكون اهمها اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد والتي دخلت حيز التنفيذ في العام ٢٠٠٥، وتمّ التصديق عليها لاحقًا في الغالبية العظمى من البلدان وهي ذات اطار واسع المعالم اذ تشمل الدول المتقدمة والنامية وتغطي مجموعة واسعة من المواضيع. وكون الامم المتحدة ليست لديها صلاحيات تنفيذية فإن فعالية الاتفاقية تعتمد على وضع آليات وطنية لتقييم مدى امتثال الحكومات بنود الاتفاقية.
٦- نشر التكنولوجيا التي تحدّ من الاتصال المباشر بين المسؤولين الحكوميين والمواطنين، الامر الذي يفتح الباب امام المعاملات غير المشروعة، ومكننة الادارة هذه تسهل عمليات المواطن وتحد من الرشوة والفساد بين الموظفين سيما في تحصيل الضرائب والمالية والكسب غير المشروع. وتشيلي، احد البلدان التي استخدمت احدث التقنيات، وقد تمّ تدشين موقع «تشيلي كومبرا» سابقًا وهو نظام الكتروني مفتوح امام الجمهور واكتسب سمعة عالمية في مجال التميّز والشفافية والكفائة.
وقد تكون التكنولوجيا هذه هي الاهم في مكافحة الفساد والرشوة وفي القضاء على فرصه عن طريق تغيير الحوافز ودفع الاصلاحات في دوائر الدولة. ونحن على مستوى عال من الفساد والرشوة الامر الذي يحدّ من النمو ويقطع مجال الفرص في القطاع العام ويؤثر سلبًا على الانتاجية. والمطلوب دعم قضاء فاعل ومستقل، له ورفع اي غطاء سياسي عن الفاسد والمفسد.
لذلك نرى انه امام الحكومة العتيدة فرصة للعمل واحداث التغيير المنشود، وقد تكون عملية مكننة الادارة هي الأهم كونها الاقرب الى معالجة بعيدا من فلسفات النظم وكونها تقطع دابر الفساد وتحدّ منه. وأهم شيء في الاصلاح قد يكون نزع هذه الآفة مصحوباً بجهود لدعم الاساس الاخلاقي للسلوك الانساني.