كل شعب من شعوب الأرض لديه كنزه الخاص ومنجمه، والتوزيع الجيوسياسي لخرائط عالمنا رغم مراحل الاستعمار إلا أنه كان ضمانة لحق التصرف في الثروات الطبيعية والبشرية، بل إن المداخلات أو موجات الجيوش الغازية مع تطور التسليح أيقظت في الشعوب المستعمرة خصائص تراثها، لتتحول تلك اليقظة إلى قوة نوعية اجتمعت على وحدة مصيرها واكتشاف معنى التعصب للأرض.
تعصب أفرز الثورات وحركات التحرر والمقاومة، وكذلك الحروب الأهلية والأيديولوجيات والدكتاتوريات إلى فجر الحروب العالمية الأولى والثانية وحجم الغليان الذي انصهرت فيه المفاهيم، لتنتج لنا جدار الفصل التاريخي بين نماذج بالية عفا عليها الزمن، وصارت نموذجاً مستهلكاً لنظم سياسية استغلت التعصب الفطري الإيجابي للحياة والمجموعة البشرية.
قمة سنغافورة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون والتي عقدت على جزيرة سنتوسا وُصفت بالقمة التاريخية لأنها تمتلك الاستحقاق بمقاييس رؤية تبعات الانفصال في شبه الجزيرة الكورية منذ منتصف القرن الماضي بخط العرض 38، الذي أدى إلى عزل الأسرة الواحدة والشعب الواحد طيلة هذه السنوات بعد ملايين القتلى من ضحايا الحرب.
ضحايا يبدو أنهم حاضرون في مغزى قمة سنغافورة يتحدون الانقسام الحاد بين النظم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية التي استقرت في لحظة فارقة من الصراع بين معسكر دول الحلفاء لأسباب تبدو لنا اليوم -بعد انقضاء عمر التجارب- لا صلة لها بمبادئ الأفكار الأممية ولا بيسار الفقراء أو بيمين المحافظين وتقاليدهم، أو باحتكار رأس المال أو بفائض الأرباح رغم رسوخ أوهام ممارسات الدول الفاعلة في المجتمع البشري والموظفين الكبار فيها أو التابعين لها.
سبعون سنة والأرض تتحرك بما عليها بين الفصول لتتغير مناهج التفكير وتتبدل وسائل العلاقات والاتصالات، لتبور تجارة الخوف من النظام أو الحاكم الذي أغلق الأبواب والنوافذ والعيون والعقول وحتى البطون على شعبه.
استقرار كوريا الشمالية على نمط كيانها السياسي لا يشبه إلا تداعيات مرض الشلل النصفي في شبه القارة الكورية، ولا يقترب منه إلا ذلك الهوس بالأب أو الجد المؤسس كيم أيل سونغ الذي كنا نعتقد في بغداد وربما في مدن عربية أخرى بحكم أعمارنا أنه من بعض الشخصيات في قوالب مناهجنا الدراسية والسياسية من كثرة الصور والكتب الصادرة منه وعنه؛ فهو في المكتبات وعلى الأرصفة وفي البيوت، وإذا دخلت محلات الحلاقة أو عيادات الأطباء ستفاجأ بأن صالة الانتظار تغص بكراسات الزعيم الكوري الشمالي حيث يقتل بها الوقت كما نفعل في حاضرنا متطلعين في الهواتف الخلوية.
الدرس الكوري الشمالي، من جمود العقيدة السياسية إلى يوم القمة ونتائجها، على طاولة النظام السياسي في إيران لمراجعة إخفاقات تعصبه لإرهابه القومي وركوبه على ظهر الفتنة، متناسياً الفشل المتكرر في تجارب زمنية متباعدة أثبتت مرارة الانغلاق الفكري أو المذهبي على شعوب إيران أو الشعوب المجاورة عربية كانت أو إسلامية.
قمة جزيرة سنتوسا، التي تعني جزيرة السلام في اللغة المحلية، تسرع من رؤية أثر العقوبات على نظام الملالي من خلال المثال الكوري الشمالي الذي تمادى في إسرافه على صناعة الصواريخ الباليستية وتدعيم ترسانته النووية وتجويع شعبه وعناده على عزلة دولية، تضطره بين آونة وأخرى إلى كسرها بالمزيد من الإصرار على ارتكاب هفوات إستراتيجية، تقابل دائماً بضغط العقوبات الإضافية.
لذلك فإن تأكيد سفير المملكة العربية السعودية في واشنطن، الأمير خالد بن سلمان بن عبدالعزيز، على طبيعة الصراع في منطقتنا مع الإرهاب الإيراني وتمدده يعتمد اختلاف الرؤية لما يعنيه المستقبل للعرب وما يعنيه للنظام في إيران الذي توقف في محطة سنة 1979، حيث نزلت حمولة صادرات ثورة الخميني المتخمة بالتزمت والتخلف والمخادعة لإرساء مشروعها الفوضوي والإرهابي والاستيطاني على حساب العرب ومدنهم وتآخي أمتهم؛ لتكون سنة استلامهم للسلطة مستودعاً لإعادة توزيع حوادث التاريخ المشبوهة والمزدوجة الأهداف.
وما العراق أو سوريا ولبنان واليمن إلا تطبيق لذلك الانسداد في رؤية الملالي لما هو مقبل من الغد، ومن الحاضر أيضاً لأنهم يصعّبون على الشعوب الإيرانية رؤية آفاق التجربة الكورية الشمالية، وما انتهت إليه من جني الفائدة في الحصول على ضمانات أمنية وتفكيك العقوبات المفروضة عليها.
الحقيقة أن نظاما سياسيا كالنظام الإيراني يشكل خطرا جسيما على الأمن العالمي بتبنيه سياسة مقايضة وجوده بالبرنامج النووي، والتعجيل بتخفيف أثر العقوبات ولو باستغلال الموقف الأوروبي من تداعيات الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وذلك بالتهديد بإنتاج أجهزة الطرد المركزي وتخصيب اليورانيوم.
في قمة دول السبع في كندا أشارت الوفود إلى تمدد إيران الإرهابي، وعدته خطرا لا يقل عن مخاطر التسلح في برنامجها النووي، لأن الميليشيات التابعة لها يمكن أن ترتدي أزياء القطعات النظامية وتندمج معها في الرايات والتسميات والواجبات، إضافة إلى القيادات إن كانت عسكرية أو أيديولوجية.
لكن ما تشهده الساحات الساخنة من ميليشيات السياسة والتسلح والتمويل يدفع إلى التأكيد إن اشتعال الأزمات دليل على دخول نظام طهران المواجهة من بوابة أذرعها مع العقوبات وانفلات الاتفاق المشبوه برعاية الإدارة الأميركية السابقة.
وجود الميليشيات ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار بالموازاة مع برنامج إيران النووي، لماذا؟ لأن الخصائص العلمية في إنتاج قنابل “كتلوية” صغيرة وتكتيكية يمكن أن تتخادم مع أسلوب تنفيذ المهمات الميليشياوية على غرار استخدام الأسلحة الكيميائية بضربات محدودة. بهذا تكون إيران في مفترق طرق مع تحديات السلاح النووي لكوريا الشمالية لانتشار النفوذ الإيراني ورهاناته على قنابل ربما أشد فتكاً من صواريخه ونواة امتلاكه للسلاح النووي، يمكن تلخيصها بمعرفة مواضع ومكامن التهييج الطائفي وكيفية صناعة الحروب أو الحروب الأهلية.
كوريا الشمالية رغم تقاليد دكتاتوريتها المقيتة إلا أنها في قمة سنغافورة انتقلت إلى منطقة الضوء في حوارها البناء لتفكيك وإزالة ترسانتها النووية في استعارة لسبعين سنة من توقف دورة الحياة عن رحلتها الإنسانية في لحظة ظلام السلطة، رحلة أنجبت بذات الظروف وجها آخر من تجليات الزمن في النصف الآخر من شبه الجزيرة الكورية عندما تم تفكيك مأساة الحرب بين الإخوة، إلى برنامج عمل لتقليل مساحة الظلام حيث يتسلل الضوء ويصنع الفارق.