جنسيتي تُتعبني.
أنا بحاجة إلى راحة وهي بحاجة إلى إعادة تأهيل،
إعادة تأهيل أخلاقية.
لقد أصبحتْ ملطخة بدم الحروب الأهلية المكشوفة أو المستترة.
وقد صارتْ نموذجاً لهذه الحروب الأهلية، التي باتت تُعرَف عالمياً بـ"اللبننة".
كما تحولتْ جنسيتي إلى مثال للارتهان للخارج. كلّ خارج.
وهي موصوفة بالفساد وقلة احترام القانون والتلوث، وفي المجالات الثلاثة هي في أعلى السلّم بين الدول.
على رغم ذلك، هي متكبرة.
ربما هي متكبرة بسبب ذلك.
فالتكبر، اذا صدّقنا علم النفس، هو ردّ فعل على الإحساس بالدونية.
تتشاوف جنسيتي على النساء وتحرم الأم من إعطاء جنسيتها إلى أولادها.
إنها جنسية تتنكر لأمها.
بيولوجياً يمكنكَ أن تشكّ في الأب، وليس في الأم.
لكن جنسيتي، لم تعد تعترف بالعلم، بل بالغيبيات.
فالغيبيات وحدها تضمن للسلطات الدينية والزمنية، التحكم بمصير البشر.
لذلك تسمح جنسيتي للأب وحده، رمز السلطة، بإعطاء جنسيته لأولاده.
و"بيّ الكل"، أي رئيس الجمهورية، يستطيع قانونياً إعطاءها لأولاده ولأولاد الجيران.
هذا ما فعله هو، والذين سبقوه.
جنسيتي تتشاوف أيضاً على النازحين السوريين وعلى اللاجئين الفلسطينيين، وتنظر بعنصرية الى جنسيتيهما. الفقراء منهم تحديداً وحصرياً.
فهي تعامل معاملةً خاصة الأغنياء منهم، واحداً واحداً، وتتشرف بإعطائهم جنسيتها.
الذكورية والطبقية والعنصرية، آفات ثلاث تجتمع في جنسيتي، اجتماع الأخوة المترافقين والمتضامنين أبداً.
يمكنكم أن تضيفوا ما هو في صلب جنسيتي، أي المذهبية والطائفية. وهما ابنتا العمّ "اللزم" للآفات الثلاث.
حملتُ جنسيتي ومعها كلّ هذا الحمل الثقيل، وسافرتُ إلى باريس.
لم أختر باريس لأنها فرنسية، على رغم تعلقي بلغة المدرسة والجامعة، التي من خلالها كوّنتُ رؤيتي لهذا العالم الذي أنتمي اليه.
اخترتُ باريس لأن لا جنسية لها، فهي كوزموبوليت.
وقلت في نفسي، إن افضل علاج لجنسيتي هو اختلاطها الحرّ، وعلى قاعدة المساواة، مع جنسيات أخرى من كل القارات.
أقول الاختلاط الحرّ وعلى قاعدة المساواة، وأعني ما أقول.
فجنسيتي معتادة على الاختلاط، في بلد متعدد، ومنفتح (أو مفتوح) على الخارج.
لكن هذا الاختلاط تتحكم فيه عوامل الفرض والقيود وقواعد التمييز الاجتماعية.
لا تحتاج جنسيتي إلى تأهيل "سياسي".
فـ"السياسي" عندنا مجرد تبرير للعنف أو للنوازع الاجتماعية للتشكيلات الماقبل وطنية، العائلية والطائفية خصوصاً.
في هذا المعنى، تعاني جنسيتي من عطب تكويني، ولا تنفع معها، العلاجات السطحية، من مثل الثرثرات "السياسية". وهي بحاجة الى علاج يطال العقل والمشاعر، المتلطية وراء "السياسي".
العلاج بالفن، بالثقافة، بالطبيعة، اذاً.
اصطحبتُها بدايةً إلى الحدائق العامة. فليفعل الهواء النقي فعله، وكذلك الألوان ورائحة الأزهار، في الجسد المتعطش الى الهرب من الروائح الكريهة والتلوث.
ولتستمتع جنسيتي بالتنزه في مساحة عامة نظيفة ومجاناً.
بعد ذلك، رافقتها الى "متحف الانسان" حيث يمكنها أن تطّلع على تطور الكائن البشري عبر آلاف السنين.
ولتبدأ جنسيتي النظر إلى نفسها بنسبية وبتواضع، كواحد من التشكلات التي رسا عليها شعب، في مكان معين ومرحلة تاريخية معينة.
ولتفهم ان التطور والتنوع هما من الثوابت في تكويننا البشري.
لا بأس هنا من متابعة المشوار الثقافي وزيارة بعض المكتبات والاطّلاع على أحدث ما توصل إليه العقل البشري المتحرر من القيود الاجتماعية، في بحثه عن الحقائق المتغيرة على الدوام.
ولتتعمق جنسيتي في فهمها لكيفية إنتاج الانسان لحياته بنفسه. ولتستنتج ما يترتب على ذلك من مسؤوليات تجاه نفسها وتجاه مصيرها.
وربما يحيي ذلك في نفسها بعض الأمل، حول تطهير نفسها من آفاتها.
تستحق جنسيتي بعض الراحة والمتعة، إثر هذا الجهد الفكري المؤلم.
موسيقى الجاز تنتظرها.
اخترتُ لها الجاز لأنها الموسيقى التي ابتكرها الانسان الأسود، الذي تطلق عليه جنسيتي اسم "العبد" من دون أن تنتبه فعلاً إلى ما تقوله.
لكن، ليس هو السبب الأهم لاختياري الجاز.
فموسيقى الجاز تبدو لي كأنها نوتات متفلتة ولو متناسقة في قالبٍ عام يغلب عليه التوق الى الفرح.
هذان التفلت والتناسق معاً، هما ما أريد لجنسيتي أن تتطبّع به في جو من الفرح. هي التي تعودت التتناسق والانصهار القسري في جوٍّ من التعاسة.
يكفيها جنسيتي هذا القدر من الاهتمام.
فهي لا تختصر انسانيتي، لا هي ولا أيّ جنسية أخرى.
سأتفلت منها بمحبة، كنوتات الجاز، وسأكمل رحلتي بدونها، مستعيداً إنسانيتي العارية من كلّ انتماء.
سأتسكع في شوارع باريس بدون هدف، إلا التمتع بالشعور بالحرية الذي يرافقني في طرقها وأزقتها وزواياها.
ومن قبيل الاحتياط، سأترك جواز سفري في الفندق، هو الذي يحمل جنسيتي ويذكّرني بها.
ولن أخاف أن يسرقه أحد.
فهذا الفندق بنجمتين، لا يرتاده الأغنياء من أصدقاء الطبقة السياسية الحاكمة في بلادي، الذين يرغبون بجنسيتي لتبييض أموالهم القذرة.