السيادة، أيضاً، يصحّ فيها ما يصحّ في الشمس: من بعيد تضيء ومن قريب تُحرق. فكيف وأنّ المواطنين الأنضج والأرقى في عالمنا اليوم هم الذين يطمحون إلى كفّ يد السيادات الوطنيّة عن أمور كثيرة تتصدّرها مسألة اللاجئين. هذه– مثلها مثل البيئة والمياه والإرهاب والمخدّرات والجريمة والتهرّب الضريبيّ وتبييض العملة– لا تُعالَج من ضمن نطاق وطنيّ. إمّا أن يعالجها العالم أو أن تفتك بالعالم.
المعركة «السياديّة» التي خاضها الوزير جبران باسيل ضدّ «مفوضيّة اللاجئين» التابعة للأمم المتّحدة، من تعابير السيادة التي تُحرق: تُحرق البشر والعقل والضمير بضربة واحدة. أمّا اللبنان، الذي باسمه خاض ويخوض وزير الخارجيّة معاركه، فمردودٌ إلى قرية تافهة وضيّقة الأفق لا تليق بأبنائها أنفسهم، ناهيك عن مدى لياقتها للاستقبال والضيافة.
باسيل، بقوّة استمدّها من المصاهرة، يريد معاقبة المؤسّسة الأمميّة لأنّها تقوم بواجبها في تنبيه اللاجئين إلى ما قد يتعرّضون إليه إذا عادوا إلى أرض تحفّ بالأخطار. تلك المؤسّسة غير معنيّة بالنسب الطائفيّة ومعدّلات الإنجاب المذهبيّ في لبنان. إنّها معنيّة، أوّلاً وأخيراً، بالاعتبار الإنسانيّ والأخلاقيّ. أمّا مضمون الدعوة الباسيليّة، في المقابل، فمؤدّاه: فليعودوا فحسب. موت السوريّين وبقاؤهم على قيد الحياة مجرّد مسألة تفصيليّة.
إنّ هذا الانتفاخ بالسيادة حيال النازحين السوريّين يُخفي من العبوديّة ما يُخفيه انعدام الطلب على السيادة حيال سلطة الوصاية الأسديّة. العبد المنتفخ بالسيادة كالعبد المنزوع السيادة: أسدان على السوريّ الضعيف وفأران أمام السوريّ القويّ. ألا ينمّ عن ذلك اقتران حملة التجنيس عبر ذاك المرسوم المشبوه، وحملة باسيل لترحيل السوريّين بأيّ ثمن وأيّة طريقة؟
وليس جديداً على حكّام «العالم الثالث» صدور الدعوات إلى كفّ يد العالم ومؤسّساته الأمميّة عن شؤون بلدانهم لأنّ هذا «مسٌّ بالسيادة الوطنيّة». بهذه الذريعة، مضى حكّام كصدّام حسين وبشّار الأسد في قتل مواطنيهم الذين يملك الحكّام إيّاهم حياتهم وموتهم. لكنْ ما دامت هذه الملكيّة الحصريّة واحداً من تعابير السيادة الوطنيّة، بات ردع العالم لأولئك الحكّام عملاً إمبرياليّاً مناهضاً للسيادة الوطنيّة.
لكنّ ما يطمح إليه جبران باسيل تفرّقه ثلاثة فوارق عمّا نفّذه صدّام وينفّذه بشّار.
الأوّل، أنّ الأخيرَيْن استهدفا بالأساس شعبيهما بالموت (وإن شاركت شعوب أخرى في دفع الأكلاف). الرغبة الباسيليّة تستهدف شعباً آخر يعاني الاقتلاع أصلاً. هذا يجعله، في حال القدرة على التنفيذ، أكثر خِسّة ووضاعة.
الثاني، أنّ صدّام وبشّار ومن شابههما هم حكّام بلادهم. دعوة باسيل ما لبثت أن اصطدمت بمواقع أخرى في السلطة اللبنانيّة يرى أصحابها رأياً معاكساً لرأيه. هذا يجعل الدعوة الباسيليّة شبيهة بتباهي الصلعاء بشعر جارتها. الرجل الذي يناطح العالم بالكاد فاز، بعد فشلين متتاليين، في نيابة البترون!
الثالث، أنّ الدعوة الباسيليّة تنبثق من حساسيّة محدّدة هي الطائفيّة في أبشع وجوهها: وجه اشتهاء الموت «لسوانا». النزعة الأقلّيّة التي يكون تعبيرها الأبرز عن نفسها كراهية الغريب الأضعف هي النزعة الأكثريّة نفسها التي يكون تعبيرها الأبرز عن نفسها سحق القريب الأضعف. والكراهية دوماً وبالتعريف عابرة للحدود: تُعمل شفرتها في القريب تمهيداً لإعمالها في الغريب، أو تسلك السلوك المعاكس الذي يفضي إلى النتيجة إيّاها.
وهذا يطرح، مرّة أخرى، على بعض اللبنانيّين السؤال ذاته: هل تريدون أن تكونوا قتلة السوريّين عبر باصات الترحيل بعدما كان بعضكم الآخر قاتليهم بالرصاص الحيّ؟