لا يمكن الحديث عن خسارات الشعب السوري، وضمنها تشريد الملايين منه وتدمير عمرانه والإخفاق في إنشاء كيانات معارضة وطنية جامعة ذات مصداقية، من دون الحديث عن خسارة الأكراد السوريين، الذين تعرضوا لخسارات متوالية شملت العراق وتركيا أيضا، على نحو ما شهدنا في العامين الماضيين.
بخصوص سوريا تحكم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وقواته العسكرية المتمثلة بقوات “الحماية الشعبية”، وفيما بعد قوات سوريا الديمقراطية، بتحديد مسارات المسألة الكردية في سوريا، إن عبر علاقته بالولايات المتحدة الأميركية، أو عبر هيمنته على المناطق التي هيمن عليها بفضل قواته العسكرية، وبتسهيلات من النظام، في مناطق مثل القامشلي وشمال غرب سوريا عموما.
في هذا المجال تقدم الحزب بأطروحاته حول قيام دولة فيدرالية ديمقراطية، لكن على أساس قومي، في حين أنه على الصعيد الخارجي تبنى أطروحات حزب العمال الكردستاني التركي، ما وضعه في تضاد مع الدور التركي في سوريا، ومع مجمل كيانات المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، سواء تلك التي تحابي الدور التركي أو تلك التي تنظر بعين الشك إلى هذا الدور. هكذا شهدنا أن هذا الحزب أخذ القضية الكردية إلى سياسات أضرت بالأكراد، وبالشعب السوري عموما، كما أنه أضر بصدقيته، ناهيك أنه، إضافة إلى تركيا، خلق نوعا من مسألة كردية في سوريا.
طبعا لا يمكن تجاهل نوع من مسألة كردية في سوريا، ناتجة عن المظلومية في حق الأكراد، كجماعة قومية، وكجزء من جماعة قومية أكبر موجودة في عدة بلدان، تماما مثلما أن العرب السوريين ينتمون إلى جماعة قومية أخرى أكبر خارج سوريا، بيد أن ذلك يتطلب التوضيح بأن مظلومية كل السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم القومية، لا تعني أنه لا يوجد نوع من تمييز ضد جماعة قومية بعينها، لا سيما الأكراد، فهؤلاء ليس فقط تم اضطهادهم كمواطنين، إذ تم ذلك باعتبارهم أكرادا أيضا، ما يتجلى ليس في تهميش مناطقهم وحرمانها من الموارد فحسب، فهذا يحصل مع مناطق أخرى ذات أغلبية عربية (في الجنوب وفي الشرق والشمال الشرقي)، وإنما فوق ذلك، في التمييز ضدهم بحرمانهم من التعبير عن هويتهم واستخدام لغتهم، وفي السعي لتعريبهم ووأد الشعور لديهم بانتمائهم لأمة أكبر.
لكن مثلما أن النظام يتحمل مسؤولية ذلك، فإن المعارضة تتحمل بعضا من المسؤولية، ولا سيما كيانها الرسمي (الائتلاف)، إذ أن المواقف التي انتهجها إزاء المسألة الكردية، وضمن ذلك محاباة السياسة التركية في المسألة الكردية فاقمت أجواء عدم الثقة التي وسمت علاقة حزب الاتحاد الديمقراطي بفصائل المعارضة.
هكذا فإن الطرفين المعنيين، أي المعارضة وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، لم يبذلا الجهود الكافية والمناسبة لتعزيز الثقة بينهما، وتذليل الالتباسات والخلافات الحاصلة. فمن جهة، لم توجد لدى المعارضة تصورات بخصوص المسألة الكردية، بل ثمة وجهات نظر متفاوتة، فثمة من أنكر وجود هذه المسألة، باعتبار الأكراد مجرد وافدين، وثمة من اعتبر أن حلها يقتصر على إسقاط النظام، كما ثمة من اختزل الأمر بقيام دولة المواطنين الديمقراطية. في المقابل لم توجد لدى الأوساط الكردية توافقات حول المستقبل، فثمة من رأى أن الوقت حان لإقامة كيان قومي مستقل، وثمة من رأى أن الوضع يتطلب إقامة كيان حكم ذاتي في إطار فيدرالي، ومن رأى أن دولة المواطنة الديمقراطية تحل الأمر.
بالنتيجة فإن السوريين، عربا وأكرادا، يفتقدون تصورات تحظى بإجماع، ويبدون مختلفين على كل شيء، في مرحلة يعانون فيها من صراع دام ومدمر، فيما تبدو معظم الكيانات مرتهنة لتوظيفات وتلاعبات خارجية. المشكلة عند المعارضة أيضا، أن معظمها تعامل بمعايير مزدوجة، إذ تم السكوت عن الرايات الخاصة لمعظم الفصائل العسكرية الإسلامية، وممارساتها الهيمنية على السوريين في المناطق التي سيطرت عليها، في حين تم توجيه اللوم والإدانة لمواقف وممارسات “قسد” وحزب الاتحاد الديمقراطي الذي قادها. والمشكلة أن هذا يشمل حتى جبهة النصرة، التي ظلت بعض أوساط المعارضة تجاملها، مع أنها لا تحسب نفسها على المعارضة، وعلى الرغم من أنها ركّزت على تصفية الجيش الحر، ومحاصرة النشطاء السياسيين، ومعاداة مقاصد الثورة الأساسية (الحرية والمواطنة والديمقراطية)، ما أضر بالثورة وبالشعب.
طبعا ثمة مآخذ كثيرة على قوات سوريا الديمقراطية، وقوات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في المواقف والممارسات وانتهاج القوة والتفرد في الخيارات، بيد أن هذه المآخذ تكتسب شرعيتها وصدقيتها في حال جاءت متسقة مع الحالات المماثلة، أو الأشد خطرا التي طبعت الثورة طوال الفترة الماضية بطابعها.
في هذا الإطار، ومهما كان رأينا بحزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية (قوات كردية – عربية)، فإن الأمر يتطلب إيجاد تصورات ملائمة، لا سيما عند المعارضة، لمعالجة المسألة الكردية في سوريا، لأن هذا يمس مستقبل سوريا ووحدة شعبها، علما أن المناطق الخاضعة لهذه القوات بدعم أميركي باتت تشكّل حوالي 40 بالمئة من مساحة سوريا (شرقي الفرات). وربما أن ذلك لا بد أن يتأسّس على اعتبارات ثلاثة أساسية: أولها أن المسألة الكردية في سوريا هي مسألة وطنية سورية أساسا وليست أمرا يخص الإقليم أو مصالح بعض دول الإقليم، كما أن ذلك ينبغي أن يجد ترجمته عند الأكراد السوريين باعتبارهم جزءا من الجماعة الوطنية السورية.
ثانيها أن هذه المسألة لا تتعلق بحقوق المواطنة فحسب، على أهميتها، وإنما، أيضا، بوجود شعب أو جزء من شعب آخر له حقوق ينبغي الاعتراف بها ومراعاتها في الدستور السوري القادم، وفي سوريا المستقبل، في دولة مواطنين متساوين وأحرار، وديمقراطية لا توجد فيها أكثريات وأقليات على أساس هوياتي، لا ديني ولا طائفي ولا مذهبي. ثالثها أن حل الصراع السوري ينبغي أن يتركز على إقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، في ظل نظام ديمقراطي ودولة مؤسسات وقانون، لكن يفضل أن يكون كل ذلك في إطار دولة فيدرالية، تقوم على أساس جغرافي مناطقي، لا على أساس إثني أو طائفي، لأن الفيدرالية تعني وحدة الأرض والشعب والدولة وتحول دون التقسيم، ودون إعادة إنتاج نظام الاستبداد، الذي يتغذى من الدولة المركزية التي تحتكر السلطة والموارد.