تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من عدم الإستقرار منذ فترة طويلة، ويعود السبب إلى تاريخ حافل من التدخلات الخارجية، ولكن أيضًا بسبب الصراعات بين بلدان هذه المنطقة. هذه الصراعات كان وقودها الإختلاف العرقي والديني ولكن أيضًا وبكل بساطة المنافسة بين زعماء هذه الدول للسيطرة على الموارد الطبيعية.
الإهتمام الدولي بمنطقة الشرق الأوسط ليس بجديد فموارد المنطقة النفطية والغازية عديدة، ونرى أن مركز ثقل هذا الإهتمام يتنقّل مع كل إكتشاف جديد لحقول نفطية أو غازية. فالتحوّلات في المشهد الجيوسياسي والجيو إقتصادي إنتقل من الخليج العربي ليحطّ رحاله في بلدان الحوض الشرقي للبحر الأبيض المُتوسطّ بعد إكتشاف الثروة الغازية الهائلة القابعة تحت سطح البحر. وبالتالي لا يُمكن تجاهل عامل إكتشاف هذه الثروة لفهم بعض المواقف الجيوستراتيجية على مثال تحريك بعض البلدان العظمى لأساطيلها وطيرانها العسكري ودباباتها! فالواقعية السياسية (realpolitik) ترتبط بشكل وثيق بإستغلال الموارد الغازية وتُعدّ السبب الرئيسي للعديد من الأزمات في المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية.
المعروف تاريخيًا أن مُعظم الحروب سببها الموارد الطبيعية وهذا الأمر يعود إلى أقدم العصور. إلا أن الصراع على النفط أخذ أهمّية خاصة منذ إكتشافه وأصبح لهذه السلعة بعدا إستراتيجيا ربطته بعض الدول بأمنها القومي على مثال الولايات المُتحدة الأميركية. والدولة التي تُنتج البترول أو يُكتشف فيها البترول تـُصبح دولة لها قيمة إستراتيجية وبالتالي فإنها عرضة لسلوك طريق من بين إثنين: طريق الإنسياق في اللعبة العالمية، أو طريق الفوضى التي تؤدّي إلى الحروب. والسيطرة على الثروات النفطية ليس بأمر سهل ويتطلّب إثقال البلد بديون تفوق قدرته المالية والإقتصادية وبالتالي يُصبح مُلزمًا رهن قسم من ثروته بغية تفادي الإنهيار. وبالتالي نرى أن الموارد الهيدروكربونية لها قيمة كبيرة في الجغرافيا السياسية. وما إكتشاف الكميات الهائلة من الغاز في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المُتوسط إلا الدليل على لعب هذه الثروة دور مُغيّر للسياسة في اللعبة الجيوسياسية والجيو إقتصادية في هذه المنطقة.
ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل وقبرص وبين لبنان وقبرص كان سلميًا (المجلس النيابي اللبناني لم يُقرّ الإتفاقية)، إلا أن الصراع التاريخي بين لبنان والعدو الصهيوني منع هذا الترسيم وأخذت الشهية العدوانية للعدو الإسرائيلي بالتمدّد في المنطقة الإقتصادية الخالصة التابعة للبنان على غرار ما فعلته على اليابسة.
الأطماع الإسرائيلية مرادها الكميات الهائلة من الغاز المُكتشفة تحت سطح البحر وبالتحديد على الحدود بين المنطقتين الإقتصاديتين الخالصتين. والإكتشافات الإسرائيلية الأخيرة في ما يخصّ حقل تامار وحقل كرديش (قريبان من الحدود البحرية اللبنانية) وما يحوياه من كميات هائلة ما هو إلا دليل قاطع على أن مطامع إسرائيل في غاز لبنان حقيقية. ولإعطاء صورة واضحة، يجب القول أن الطبقات الجيولوجية التي تحوي الغاز قد تكون مُتشابكة وبالتالي فإن ذلك مثل شخصين يشربان الماء الموجود في كوب من الماء بمصّاصتين (شلمونة)، لذا فإن الذي يشرب بسرعّة أكثر هو الذي يحصل على الحصّة الأكبر.
تعتبر حاجة إسرائيل إلى الغاز عنصرا أساسيا في إستراتيجيتها لتحقيق الإكتفاء الذاتي. والكمّيات المُكتشفة في إسرائيل تسمح لها بالتصدير إلى الدول المجاورة مثل الأردن وحتى تركيا التي تقبع تحت رحمة روسيا وإيران في ما يخصّ الغاز. وقد تمّ البحث بين إسرائيل وتركيا لتمرير أنبوب بحري من حقل لفيتان إلى تركيا بطول يوازي 450 كم ويكون مُموّلًا بقسم كبير من أوروبا أميركا وتركيا. إلا أن هذه المفاوضات تحتاج إلى رضى الدب الروسي.
لم تستطع إسرائيل حتى الساعة إقناع الكثير من الشركات النفطية العالمية بالإستثمار في حقولها الغازية والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى العنصر الأمني، فوجود حزب الله يُشكّل تهديدًا واضحًا لإسرائيل. ويبلغ إجمالي الإستثمارات الغازية في المنطقة الإقتصادية الخالصة الإسرائيلية 3.5 مليار دولار لا تُغطّي إلا 30% من حقل تامار! وتعود هذه الإستثمارات في معظمها إلى شركة نوبل إينرجي التي لم تكن شركة معروفة قبل الإستثمار في الحقول الإسرائيلية، لكن أحد الأشخاص وأسمه Papadopoulos أميركي من أصل يوناني قام بلعب دور أساسي في تقريب هذه الشركة من الحكومة الإسرائيلية. وقد لعبت الصدفة (أو لا) دورًا من ناحية أن الرئيس ترامب إختاره كمستشار للشؤون السياسية الخارجية.
الحديث عن هذا الشخص هدفه القول أنه مُهندس نظرية التقارب الإستراتيجي بين الولايات المُتحدة الأميركية وإسرائيل وقبرص في ما يخصّ الغاز في الحوض الشرقي للمتوسط. إلا أن هذه الإستراتيجية واجهت صعوبات مع مطالب أردوغان بالحصول على قطعة من قالب الحلوى.
تواجه اليوم شركة نوبل دعوة بحقها في إسرائيل بتهمة الإحتكار وهذا الأمر دفعها إلى لجم إستثماراتها مما إضطرّ الحكومة الإسرائيلية إلى البحث عن مُستثمرين أخرين. لكن يبقى العنصر الأمني موجودا، فما الحلّ إذن؟
من هنا يأتي العرض الإسرائيلي للبنان بترسيم الحدود البريّة والبحرية والذي أعلن عنه الرئيس نبيه برّي. هذا الإقتراح وُجه بطلب لبناني بإثبات جدّية العرض الإسرائيلي. وهذا الطلب بإعتقادنا يدلّ عن حنكة سياسية، فإذا كان البعض يُشكّك بمطامع إسرائيل في الأراضي اللبنانية (البرّ) إلا أن مطامعها في البحر هو أمر محتوم. الجدير ذكره أن مُشكلة الحدود عادت إلى الواجهة مع إطلاق لبنان مناقصات تلزيم التنقيب عن الغاز في البحر وبالتالي قامت الدولة العبرية بتهديد لبنان والشركات من التنقيب عن الغاز في المنطقة المُتنازع عليها.
اليوم تظهر إسرائيل بموقف ضعف في المفاوضات مع لبنان، فقد فشلت في تحجيم المقاومة اللبنانية ولم تنجحّ في خلق نزاع داخلي في لبنان (حكومة الوحدة الوطنية). وترى إسرائيل أن الوضع الإقتصادي والمالي في لبنان هو أحدّ العوامل التي يُمكن إستخدامه لإقناع لبنان بالسير في ترسيم الحدود وربح الوقت علّ الشركات النفطية العالمية ترى في المفاوضات غير المباشرة (عبر الولايات المُتحدة الأميركية) ضمانة لإستثماراتها.
في الختام، يجب معرفة أن لبنان ليس ببلدّ عدواني وإذا كان في إمكانه إستعادة حقوقه بالطرق السلمية فهذا أمر جيدّ. لكن ما يجب التنبهّ له أن لا تتحوّل هذه المفاوضات إلى عملية تطبيع مع العدو الإسرائيلي.