شهر من العسل تستعد روسيا فيه لانطلاق مونديال كرة القدم بعد إنجازات في البناء والإعمار والابتكار والجهود الإدارية والهندسية والأمنية تبدو معها موسكو ومدن روسية أخرى بأجمل وأرقى أناقتها في انتظار استقبال الوفود الرياضية والإعلامية، وجماهير واسعة من مختلف أنحاء العالم ستحضر لتشجيع فرقها ولمتابعة الحدث الرياضي، والأهم الاستمتاع بروسيا المُحبة للحياة والتألق والتقدم.
الحقيقة المؤسفة هي في عدم استمرار هذه الإطلالة الراقية من موسكو على الإنسانية بسبب السياسة أو ربما تراكم الإرث بما يعرف بفضائل السلطات أو طموحات القادة. لا نريد التذكير بتفاصيل المأساة أو منزلق التدخل الروسي في سوريا، ومساهمتها في إبادة التجمعات السكانية بمساندتها للنظام الحاكم، ودعمها للنظام الإيراني تحديدا بعد ضمّ شبه جزيرة القرم، وما تلاه من اتفاق نووي معه؛ كما لو أن روسيا فتحت الباب للتمدد الإيراني لتمهد لدخولها صناعة بؤرة إرهاب موثوق بفاعليتها في عالمنا العربي ومنطقة الشرق الأوسط، لتحويل الأنظار أو تخفيف حدتها تجاه ما تقوم به روسيا على الأرض أو في المحافل السياسية الدولية.
لكننا نتطلع إلى روسيا بروح البهجة في شهر زفاف موسكو الرياضي، شهر أخاذ لمعرفتنا العميقة بأن التاريخ يمكن أن يبدأ بحلم إنساني مشترك فضيلته أنه قابل للاستمرار والحياة سواء لقادته أو للأبناء والأحفاد، ودون انقطاع حاد أو سقوط في فواصل طويلة قد تستغرق عقودا أو حتى قرونا من الزمن.
عظيم حزن ينتابنا ونحن نتطلع إلى بيتنا في العراق أو في سوريا أو بيتنا في كل مآثر العروبة عبر الأجيال، لنراه مهدما تغيب عنه العائلة وتتناوش جذوره طفيليات نمت في ظروف شاذة من سفك دماء وحروب وغياب الوجدان الجماعي الذي كان يؤلف بين قلوبنا وعقولنا.
تمكنت تلك الأدوات الطارئة من استحضار أسوأ ما في تاريخها ظنا منها أنها تؤسس لسلسلة وقائع جديدة تحاول غرسها كحقائق مطلقة في وحل جرائمها، لتروّض من خلالها شعوبنا وأمتنا على التسليم لها أو مهادنتها.
الخلافات الروسية – الإيرانية ظهرت على السطح بعد استقدام حاكم سوريا إلى سوتشي للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، والذي رافقته تخمة وسوء هضم في التفسيرات لمبدأ “خروج القوات الأجنبية من سوريا”، وطبيعي أن تكون من بينها القوات الإيرانية رغم مختلف ذرائع تصنيفها وتواجدها، فالنظام السوري يرى أن خروج الإيرانيين من سوريا غير مطروح أو قابل حتى للنقاش.
اتفاق الجنوب ينص على انسحاب القوات الإيرانية للعمق بعيدا عن الحدود؛ تلبدت بعده الأجواء الروسية مع ذراع الحرس الثوري في لبنان لتهتز معادلة بقاء النظام في ظل الوجود الإيراني.
إذا لم تنسحب إيران سيسقط النظام في سوريا باستهداف رأس النظام، حسب التصريحات الإسرائيلية المتزامنة مع الهجمات على قاعدة تيفور الجوية ومقتل ثمانية من القادة العسكريين الإيرانيين؛ أما في حالة الانسحاب الإيراني فإن سقوط النظام سيكون حتميا في فخ المساومات الروسية على النفوذ، أو مقايضة الأزمات بمقتربات علاقتها بالعقوبات المفروضة عليها بعد أحداث شبه جزيرة القرم. السياسة في إيران تتبع جينات نظام الملالي الجائع للحكم والمتعطش لفكرة تصدير الثورة بالعمل على تسريع نمو الأهداف ونضوجها، فسياسة حرق المراحل ستقوده إلى السقوط والتلاشي والغيبة، لأن التأسيس يقوم على قاعدة مدمرة تحمل في ولادتها كل أمراض الولادات السالفة المماثلة.
وعلى هذا الأساس فإن أربعين سنة لنظام الملالي في السلطة تعتبر انغماسا في الشيخوخة بما أسرف على نفسه من نشر أوبئة اجتاحت الشعوب الإيرانية وتمددت إلى شعوب المنطقة والعالم.
هل سنشهد في سنة 2019 نهاية النظام الإرهابي في إيران؟ وهل أن نهاية تواجده مع ميليشياته في سوريا باتت قريبة أم إنه سيذهب بعيدا، وهذا وارد، لإصابته بجنون لا شفاء منه ودون كوابح لأن تلافيف ذاكرته تم سحقها بالثقة المفرطة بعقيدة النظام وهيمنة قوته وأجهزته الأمنية في ممارسة وسائلها غير التقليدية في خلق مبررات الإرهاب والعنف والتمدد.
لو أخذنا من التاريخ مقاصده الزمنية لوضعنا هذا النوع من الأنظمة في فاصل قصير متنقل بين فراغات الأحداث لأزمنة ولو شبه عقلانية استطاعت أن تجتهد لتطيل من عمرها وإبقاء شعوبها في صلب مهمة الحياة.
اللعب بتخصيب اليورانيوم وإنتاج المزيد من أجهزة الطرد المركزي والمناورة على الموقف الأوروبي في تخفيف آثار العقوبات الأميركية بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، هي متضافرة مجرد رافعة للوصول في نهاية المطاف إلى تحقيق العمر الافتراضي للنظام الذي وصل إلى نقطة إغلاق على نشوة زوال غير محسوسة، بحكم ترهل يترجمه النظام بالتفوق والغلبة وحتمية انتصار إرادة الغائب فيهم.
النظام الإيراني يضع الخطط البديلة لإعادة النظام السوري إلى لبنان في السياسة، وما ترنيمة أحدهم المتأخرة من أن اللاجئين السوريين في لبنان هم بين أخوتهم في معرض دفاعه عن دور الميليشيات إلا صورة مكبرة لما يجري الإعداد له في تطبيقات القانون رقم 10 للاستيلاء على بيوت السوريين المهجرين في لبنان والأردن وتركيا وفي بقاع الشتات، لإحداث التغيير السكاني الممنهج في جريمة شائنة نبهنا إلى إجراءاتها قبل أكثر من سنة عبر أحداث عملية لمصادرة أملاك مواطنين ما عادت لهم وثائق أو قدرة على العودة لتخوفهم المنطقي من الاعتقال والملاحقة والتغييب.
النظام الإيراني يتجه إلى حتفه وبإرادته وبثمالة تمدده وحماقاته في الهروب قدما أمام العقوبات، متغافلا عن عدد الشركات المغادرة، ومنها الشركات الروسية، استجابة لما صدر من الإدارة الأميركية، رهان خاسر تدحضه الوقائع وتدحضه فكرة الاستثمارات الأوروبية التي تعتمد غالبا على ائتمانات شخصية لا دخل للدول فيها.
نظام الملالي وهو يتجه إلى منطقة الاختفاء في ظلامه وتخلفه المعتاد خلال القرون القادمة، يبدو أنه يحث الخطى متسارعا ليكشف عن ملفاته السرية في دعم الإرهاب وصناعة الميليشيات والاغتيالات وزراعة الفتن، وأيضا تسخير تنظيمي القاعدة وداعش لتنفيذ مهماته ومخططاته ومنها الإبقاء على النظام السوري بتأكيد حجة عدم وجود البديل للنظام إلا بالإرهاب. لكن ماذا عن بقاء النظام الإيراني في سوريا أو حتى بقائه في إيران؟ إذ لم يعد غريبا بقاء ممن ظل يهددنا أو يتوعدنا باحتلال داعش لمدننا العربية في لبنان أو سوريا أو العراق ولو بأثر رجعي.