ينتهي لقاء وزيري خارجية تركيا والولايات المتحدة في واشنطن إلى تفاهمات حول منبج. يبدو الأمر في قراءة أولى ميدانياً يعالج معضلة موضعية. غير أن قراءة ثانية قد تكشف أن الاتفاق بين مولود جاويش أوغلو ومايك بومبيو قد يباشرُ إعادة تموضع جديدة لواشنطن إزاء أنقرة ترممُ علاقات تصدّعت خلال السنوات الأخيرة بين الشريكين الأطلسيين.
تولّى البيان المشترك التركيز على أن خارطة الطريق التي تم الاتفاق عليها حول منبج، غرب الفرات في سوريا، هي شأن أطلسي جرى رسمه بين عضوين في حلف الناتو. ومن تلك الإطلالة الأطلسية المفاجأة على ضفاف النهر تتسرب إشارات لا يحبذها شريك تركيا الروسي في عملية أستانة. بيد أن الوزير التركي المدرك لحساسية الأمر يسارع إلى الإعلان أن الاتفاق ليس سريا جرى إبلاغ موسكو به.
يفصح إعلان “وحدات حماية الشعب” الكردية عن سحب “مستشاريها” من مدينة منبج أن ما أُعلن في واشنطن لم يكن إلا كشفا لتفاهمات أنهت واشنطن ترتيبها مع حلفائها الأكراد. ويتسرّب من سطور البيان الصادر عن الأكراد أن وجود قوات “الحماية” وانسحابها من المدينة خضع لتوقيت يتعلق بالمعركة ضد الإرهاب، وبالتالي خضع للساعة الأميركية في هذا الصدد. بيد أن ما بات واضحا أن واشنطن التي وعدت أنقرة بالضغط لسحب القوات من غرب الفرات في السابق أجّلت كثيرا أمر ذلك، ولطالما حرّكت قواتها على تخوم منبج حماية للقوى الكردية من أي أذى تركي محتمل، بانتظار أن تجري مقايضة ما في زمن ما.
قد يكون من المبكّر تلمّس مضمون المقايضة التي جرت في العاصمة الأميركية. ويتضح مما أشاعته واشنطن بعد اتفاق بومبيو- جاويش أوغلو من أن تنفيذ اتفاق منبج “معقد وحرج”، أن المقايضة حساسةٌ سيجري التحقق منها خطوة خطوة على نحو يوحي أن الطرفين يرسمان، بعناية، حدود مصالحهما داخل التحوّلات السورية الراهنة.
لا يمكن رغم ذلك إغفال “الهدية” الكبرى التي قدمتها إدارة الرئيس دونالد ترامب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. يستعدُّ الأخير لخوض انتخابات تشريعية ورئاسية في 24 من يونيو، ولا شك أن إتاحة واشنطن للأتراك التباهي بإنجاز منبج ينفخ ريحا في أشرعة أردوغان وصحبه، خصوصا حين يخصّبون الأمر بالكلام عن عمليات تركية قادمة ضد قنديل وسنجار في العراق. وفي صلب الحملة الانتخابية يروّج الأتراك أمر منبج على أنه تمهيد لما بعد منبج اتساقا مع وعود سابقة كان الرئيس التركي قد أطلقها بالتمدد شرقا وصولا إلى الحدود مع العراق.
على أن قراءة ثالثة للبيان المشترك بين واشنطن وأنقرة حول تفاهمات منبج لا تذهب مذهب أحلام تركيا شرق الفرات. تبدو واشنطن ذاهبة إلى سحب فتيل منبج من أجل التفرغ لخرائط جديدة في شرق الفرات تهتم بمعالجة الحضور الإيراني في سوريا. يتحدث بومبيو عن مرحلة ما بعد داعش لا سيما لترتيب الحدود مع العراق، وهي حدود عزيزة على قلب إيران لتأمين ممرها الشهير من طهران إلى بيروت. يود الأميركيون إرضاء شريكهم التركي داخل حلف الأطلسي من أجل ضمه إلى جهود أطلسية لم تعد خافية، من أجل فرض أمر واقع فوق الأراضي السورية. وفيما يكثر الحديث عن خطط لقيام مراكز أطلسية لرصد ومراقبة الحضور الإيراني في سوريا، تروج سيناريوهات جديدة عن قيام تشكّلات عسكرية عربية عشائرية بدعم أطلسي خليجي شرقا ضمن رؤية للضغط على الوجود الإيراني العسكري في سوريا.
ولا يمكن قراءة تفاهمات واشنطن أنقرة بعيدا عن المزاج الذي سبق لترامب أن أعلن عنه بشأن نيته سحب القوات الأميركية من سوريا. أعاد البنتاغون وأجهزة المخابرات تهذيب خطاب الرئيس الأميركي، إلا أن العواصم المعنية باتت تقارب الشأن السوري على معطى أن التواجد العسكري الأميركي في سوريا مؤقتٌ حتى لو طال هذا المؤقت إلى حين. كان ترامب قد قال إن على “الآخرين” تحمّل المسؤوليات في سوريا ما حفز الآخرون على السعي لتوسيع حصصهم السورية داخل التركة الأميركية السورية الموعودة.
على خلفية الترتيبات الصعبة التي تُعدُّ لسوريا يتقدم تفصيل منبج الأميركي التركي بصفته تطورا على خارطة التحوّلات الداخلية. تجري تحوّلات أخرى في جنوب سوريا تشارك الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل والأردن في إنتاجها.
وعلى الرغم من تراكم التصريحات، لا سيما تلك الروسية “المبشرة” بالتوصل إلى تفاهمات تعيد تعزيز اتفاق الرئيسين الأميركي الروسي في هامبورغ في يوليو 2017 لقيام منطقة خفض التوتر في تلك المنطقة، فإن أمر هذا الاتفاق ما زال عصيّا ودون إنجازه كثيرٌ من العقبات.
لا يفصح اتفاق منبج عن مستقبل التواجد الأطلسي شرقا لا سيما ذلك الأميركي الفرنسي. نشرت باريس قواتها في المنطقة بُعيد استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لوفد كردي سوري في الإليزيه في مارس الماضي. لم تعلق فرنسا على تفاهمات بومبيو وجاويش أوغلو لكنها لا شك ضالعة في اتفاق الأطلسيين هناك. على أن ما تفصح عنه خارطة الطريق هناك لا يكشف خططاً لانسحاب أميركي، فيما أن جلبة انسحاب تلوح من الورش التي تعمل على إخراج اتفاق الجنوب السوري.
يمكن القول إن واشنطن ترسم لتركيا خطوطا داخل الخارطة السورية، فيما ترسم في الجنوب خطوطا متدحرجة لنفوذ إيران. يجري في الشمال تنظيم الحضور التركي وجعله جزءا من إستراتيجية الأطلسي في سوريا، فيما يجري في الجنوب تنظيم الانسحاب الإيراني وجعل المنطقة خالية من تواجد الميليشيات التابعة لطهران.
لا تبدو واشنطن مهتمة ببقاء قاعدتها العسكرية في التنف بالقرب من مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية. والظاهر أن ورقة التخلّي عن التنف، وهو مطلب تكرّر موسكو التأكيد عليه هذه الأيام، قيد التداول في إطار الخلاصات التي يمكن أن ترى النور خلال ساعات. استنفذت القاعدة مهمتها الأساسية، وباتت تمثّل حاليا حضورا رمزيا أميركيا جرى التعامل بقسوة مع الميليشيات الداعمة لنظام دمشق التي حاولت سابقا الاقتراب منها. غير أن ما هو رمزي قابل للزوال خاضع لاتّساق ذلك مع إستراتيجية واشنطن في المنطقة.
يكتشف وزير خارجية النظام وليد المعلم، بالصدفة، أمر الورقة المتداولة فينفي الاتفاق في الجنوب ويشترط لذلك انسحاب الأميركيين من التنف. تريد واشنطن وإسرائيل انسحابا إيرانيّا كاملا من الجنوب، وفوق ذلك آليات مراقبة لمنع طهران وميليشياتها من العودة إلى هذه المنطقة. تطرح موسكو أمر التنف تطرب طهران للفكرة وتؤكد عدم وجود قوات لها في المنطقة. تتحرك وحدات حزب الله موحية بانسحاب، فيما يوعَز للمعلم أن يقدم رواية تزعم أن لدمشق شروطا. وعليه يتراكم ما يوحي أن الأميركيين سيتخلون عن القاعدة الشهيرة، فيما لا يبدو أن جدلا يهدد قواعد واشنطن الأخرى في الشمال.
تعيد أنقرة التذكّر بأنها عضو في حلف الناتو. يؤكد جاويش أوغلو أن الكونغرس لن يعطل صفقة طائرات أف 35، وأن صفقة منظومة صواريخ أس - 400 الروسية هي ردّ فعل على رفض واشنطن بيع تركيا منظومة صواريخ مشابهة. وإذا ما تأكد الحضور التركي الأميركي الفرنسي البريطاني.. إلخ، في الداخل السوري بالصفة الأطلسية، فإن أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القمة المرتقبة المقبلة مع نظيره الأميركي عملا كثيرا لتفكيك المنظومة التي تضغط على احتكارية إمساكه بالقرار في سوريا. بيد أن في ما يتسرّب من تفاهمات منبج، كما من تفاهمات الجنوب المحتملة، ما يقلق طهران، ذلك أن في الأطلسية المطلّة على سوريا شبهة تفاهم كامل مع روسيا، وقطيعة تامة مع إيران.