هناك أزمة حكم في العالم العربي مستمرة منذ عقود. فالحكومة ومجلس النواب في لبنان، على سبيل المثال، هما عبء ثقيل على الشعب اللبناني الذي يسعى بكل السبل إلى استرضائهما مضحيا بحقوقه مستغنيا عن سؤالهما عن الخدمات المفقودة لئلا يحرجهما فيُدخل ذلك الحرج البلاد في أزمة، قد تؤدّي إلى إشعال فتيل حرب أهلية جديدة.
كانت المعادلة واضحة؛ إما القبول بالتركيبة الحكومية التي هي أشبه بالوصفة الثابتة وإن تغيرت أحيانا كميات عناصرها، وإما الدخول إلى متاهة عنف لن يؤدي الخروج منها إلى نهاية أفضل. لذلك يفضل اللبنانيون أن يحرجهم الحكم كما فعل حين أقرّ قانون التجنيس المشبوه بدلا من أن يحرجوه.
هناك شعار مرفوع في المدن العربية يقول “الشرطة في خدمة الشعب”. بالقياس إلى طبيعة العلاقة بين الشرطي في العالم العربي (باستثناء دولة أو دولتين) والشعب فإن ذلك الشعار يبدو مثل مزحة أو دعابة سوداء. فالشرطة تخدم مشروعها القمعي التأديبي، في ظل شعورها بأن هناك من يسعى إلى إفشال ذلك المشروع رغبة منه في تهديم الدولة، ذلك الكيان التجريدي الذي يتخلى أعضاؤه عن صفاتهم البشرية ما إن ينتقلوا إليه، ليكونوا من خلاله حَمَلة وصية مقدسة لا يجوز المساس بها. لذلك لا يجوز المساس بهم أيضا.
ما إن ينتقل المرء إلى درجة أصحاب المعالي في عدد من الدول العربية حتى يتخلى عن هيئة الموظف الذي كانه، ليدخل في قالب رجل الأعمال الذي سيكونه بعد أن يترك الوزارة.
شريحة أصحاب المعالي السابقين تنتشر في أسواق المال العربية بطريقة ينبغي أن يشعر بسببها النظام السياسي العربي بالحرج. ولكن مَن يجرؤ على مساءلة دولة، كانت ولا تزال تنظر إلى الشعب الذي يلوذ بها باعتباره عبئا ثقيلا عليها.
فغالبا ما تشكو الدولة العربية من نهم مواطنيها في الأكل. إنهم يأكلون كثيرا ولا حيلة لنا في إطعامهم كلهم؟ لقد نشأت أزمة خبز في مصر وتونس والأردن ردتها الحكومات إلى أن الشعب يستهلك الكثير من الخبز في طعامه. كما لو أن الخبز هو نوع من الكافيار. أزعجت الشعوب العربية حكوماتها في اكتفائها بالخبز طعاما. وكان شعار تلك الحكومات “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.
لقد سعت تلك الشعوب عبر مسيرة العقود الخمسة الماضية إلى تفادي الصدام مع الحكومات التي لم تكن تشعر بالارتياح إلى الكثير من التصرفات التي تشي بأن هناك مطالب شعبية هي في حقيقتها ليست سوى الحد الأدنى من مستويات العيش.
سقطت الأنظمة السياسية في مصر وليبيا وتونس واليمن بسبب مغالاتها في احتقار الشعوب والنظر إليها باعتبارها مجرّد مجموعات قطيعية لا هدف لها سوى إزعاج الحاكم الذي يحب أن يُحاط بحاشيته المنعمة التي لا تبخل عليه بالأكاذيب التي تنعش خياله.
ما لم يقله أحد قاله القذافي. لم ير العقيد الراحل ثوارا في شعبه، بل رأى قطيع جرذان. أزمة الحكم التي يعيشها العالم العربي لخصها القذافي في كلماته الأخيرة.
هناك اليوم مَن يروّج لفكرة الرفاهية التي كانت سائدة في ظل حكم القذافي. ولو أمعنا النظر في مفردات تلك الرفاهية وطريقة تقديمها، لاكتشفنا أن الرجل كان يتعامل مع ليبيا باعتبارها حظيرة محكومة بإرادة حارسها.
كان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يفخر أنه يوم كان نائبا للرئيس يعرف بالأرقام ما يستهلكه العراقيون من إبر الخياطة. وهو ما يذكر بالحكومة الأبوية التي يتحدث عنها الآن رجل الدين العراقي مقتدى الصدر في إشارة منه إلى نوع من التبني الحنون الذي يجب أن تمارسه الدولة، في مقابل الهيمنة التي يمارسها اللصوص على مداخل ومخارج الدولة. طبعا مفهوم الحكومة الأبوية لا يمت بصلة إلى عالم السياسة.
مثله في ذلك مثل مفهوم الحكومة الرشيقة الذي طرحه ملك الأردن عبدالله الثاني في محاولة منه للتخفيف من عبء الحكومة الثقيل على الشعب. حين تدخل العاهل الأردني في الأزمة الأخيرة التي شهدها بلده، فإنه لجأ إلى تغيير الحكومة ولم يمدّ يده إلى قانون الضرائب الذي هو من وضع تلك الحكومة وهو سبب الأزمة.
إجراء يشير إلى ما صار الجميع يعترف بقوة ظهوره. هناك أزمة حكم في العالم العربي ليس من اليسير حلها بالعودة إلى عقد اجتماعي مفقود.