في 8 حزيران 2012 أغلق غسان تويني كتابه، بعدما "تاجر بالوزنات، وجاهد الجهاد الحسن، وأكمل السعي، وحفظ الإيمان" (نص إنجيلي).
الجسد الذي ناء بأعبائه وأثقاله، وقدّم أقصى ما يمكن أن يقدّمه، إناءً حافظاً لعمل الروح؛ جَسوراً، شجاعاً، مكافحاً، مجالداً، صابراً، مختبِراً، ومكابراً، كان عليه أن يستريح، تاركاً الأرض لعمّال الروح من بعده.
لمناسبة الذكرى السادسة لغياب غسان تويني، أستحضرُ الحبَّ الذي ملك عقله وقلبه ويده، طارحاً من وحيه، هذا السؤال: ما هو الحبّ الذي "استولى" على غسان تويني؟ وهل يكفي المرء أن يحبّ، لكي يتاجر بالوزنات، ويكون يجاهد الجهاد الحسن، ويكمل السعي، ويحفظ الإيمان، وينجز عمل الروح؟
تالياً، ما هو الحبّ الحقيقي في تجربة غسان تويني؟
تَدَارُكاً، أطرح سؤالاً "غير لائق" على نفسي: أمن باب اللياقة والمجاملة أكتب عن غسان تويني؟
ومن باب الفظاظة أجيب عنه: كلا. ليس. بل تبّاً للياقات، وللمجاملات مطلقاً.
لا أكتب عن أحد من هذا الباب. البتّة.
ثمّ، ليس ثمّة لياقةٌ، ولا مجاملةٌ، تدعوني إلى الكتابة عن هذا الموضوع. ولا خصوصاً عن غسان تويني.
للصراحة، ثمة سببٌ غائرٌ وعميقٌ ودفين يمثل وراء الكتابة.
السبب هو "الغيرة".
"الغيرة" من الحبّ. و"الغيرة" من غسان تويني.
الحبّ، عندما يصبح استثنائياً، يستفزّني، ويحشرني في الزاوية.
هذا الحبّ بالذات، يجعلني أغار. بل يجعلني أتأجّج. وأتلمّظ. وأتلوّى. وأتحرّق. وأموت من الغيرة.
الحبّ العاديّ، عاديّ.
أما الحبّ غير العاديّ، فغير عاديّ. وهذا هو لبّ الموضوع.
عن أيّ "نوع" من الحبّ، أكتب.
عن الحبّ الذي أحبّ به غسان تويني أعماله.
أكتب عن حبّه لأعماله تحديداً.
هذا ما يعنيني حالياً، والآن. وأنا لا أريد أن أخرج عن "الموضوع".
لذا أُُسارِع إلى تقديم الاعتذار العلني.
أنا أعتذر يا جماعة، من أهله وأحبّائه وأقربائه وأصدقائه ورفاقه ومريديه، الذين أحبّهم هذا الرجل حبّاً غير عاديّ.
أعتذر من هؤلاء شخصاً شخصاً، وكياناً كياناً.
لكن هذا الجانب من الموضوع، هذا الجانب من الحبّ، ليس هو موضوعي.
فأنا أغار من حبّ غسان تويني للكتابة. ومن غيرته على الكتابة.
أغار من حبّه للصحافة. ومن غيرته على الصحافة.
أغار من حبّه للحبر. ومن غيرته على الحبر.
أغار من حبّه لـ"النهار". ومن غيرته على "النهار".
أغار من حبّه للبنان. ومن غيرته على لبنان.
أغار من حبّه لمعنى لبنان. ومن غيرته على معنى لبنان.
أغار من حبّه للحرية. ومن غيرته على الحرية.
أغار من حبّه للأحرار. ومن غيرته على الأحرار.
أغار من حبّه للديموقراطية. ومن غيرته على الديموقراطية.
أغار من حبّه للدولة المدنية العلمانية. ومن غيرته على الدولة المدنية العلمانية.
و... أغار منه، هو بالذات.
أغار من غسان تويني لأنه يحبّ هذا الحبّ. ولأنه يغار هذه الغيرة.
وأغار منه، لأن هذا الحبّ هو الحبّ الحقيقي.
لأنه الحبّ الذي بالعقل الذي بالروح الذي بالجسد الذي بالذكاء الذي بالموهبة الذي بالحدس الذي بالمعرفة الذي بالعلم الذي بالاجتهاد الذي بالخبرة الذي بالمراس الذي بالتعلّم الذي بالثقافة الذي بالحداثة الذي هو الفجر والذي هو غداً.
وعندما ينوء الجسد بأعبائه وأثقاله وأحماله، يُسلَّم الحبّ إلى الروح ليعمل عمله، ويستنهض عمّاله.
في 8 حزيران 2012 ناء جسد غسان تويني بأعبائه وأثقاله وأحماله، تاركاً الأرض لعمل الروح ولعمّاله.
وهذا هو الحبّ الحقيقي.