يُحكى أنه في قديم الزمان وسالفِ العصر والأوان في مدينة بيروت وأرض لبنان، وتحديداً خلال شهر رمضان، لو علم الملك شهريار أنه سيتمّ عرض مسلسل «تانغو»، لكان استغنى أشدّ الاستغناء عن خدمات زوجته شهرزاد، وأوكلَ اليها أموراً ثانية تهتمّ بها غير سردِ روايات لمدة ألف ليلة وليلة. لو علمَ شهريار بمسلسل «تانغو» لكان اشترى لنفسه ريموت كونترول ونصف كيلو بزورات وأغلقَ هاتفَه مساءً وطلب من خَدمه وحشمه إلغاءَ كلّ مواعيده وتسمَّر أمام شاشة التلفزيون، واستمتع 30 ليلة وليلة أكثر ممّا سمعه وتحمَّس له وانتظرَه لألف ليلة.
لا شكّ في أنّ حبكة إياد أبو الشامات لمسلسل «تانغو» والتنقّل في أحداثه بين الماضي والحاضر، والتمايل السلِس بين الشخصيات والتعقيدات كفيل في أن يقطع رزق شهرزاد بسبب صلابته الروائية وترابطِه المتين، وكلّ نهاية حلقة توقِع المشاهد أكثر في شرَك المتابعة، حتى كادت تصبح نهاراتنا مجرّد تحضيرات وتوقّعات لأحداث حلقة المساء من المسلسل...
صدِّقوني، مرّت أكثر من 20 ليلة وليلة، ولا أحد يعلم طبيعة العمل الذي يتابعه، ولا مصير أحداثه، الجميع متشوّق للأحداث ومترقّب للنتائج... لكن حتى مع احتدام الأحداث وسِحرها الجاذب، تصبح ثانويةً أمام أداء الممثلين في تقديم تفاصيل المسلسل وعيشِهم حالات شخصياتهم، أداء يَمنع المشاهد من إشاحة نظره ولو لثانية واحدة عن الشاشة. فمَن كان يتوقّع أن تتمكّن دانييلا رحمة (فرح) من التفوّق على مفاتنها ومقدراتها الجمالية، لتفسحَ في المجال أمام الفتاة التي في داخلها أن تعبّر بالنظرات والانفعالات والصوت فقط، وتثبت في كلّ حلقة أنّها مشروع ممثلة حقيقية تقف اليوم على عتبة مستقبلها التمثيلي.
ومن كان يتوقع أن يفضَح باسم مغنية (سامي) بدوره في «تانغو» كثيراً من الإنتاجات اللبنانية الأخرى، ويعرّي بقوّة أدائه وسِحر شخصيته ضَعف مخرجين ومنتجين وكتّاب ظلموه في أدوار أخرى وهمّشوا موهبته، كما يَفعلون مع كثرٍ غيره. أو طلال الجردي (جاد) الذي نكاد لا نصدّق أنه ممثّل، وإنّما هو هذا المحقّق الذي حظيَ بدور في مسلسل، فكلّما يدخل على مشهد يملأه هيبة أمنية من كلّ جوانبه بقوّة الأداء والتعبير. ولا يمكن لأحد أن ينحدر بأخلاق الشخصية أكثر من حسّان مراد (فؤاد)، الذي يعرف كيف يُرغمنا على كرهه وازدرائه في كلّ مرّة يظهر أمام الكاميرا ليذكّرَنا كم هي كثيرة التعقيدات والأبعاد التي يضيفها إلى كاراكتيره.
أمّا السحر الحقيقي فهو مع المتألّق باسل خيّاط (عامر)، الذي عرف كيف يخيط شخصيتي الجميل والوحش في شخصية واحدة، فخدعنا وخدع كلَّ من معه في المسلسل، فأوقعنا في غرامه وهو يكرهنا جميعاً ولا يهتمّ سوى بمصالحه الخاصه، وعرف كيف يستغلّنا لمتابعة المسلسل مثلما استغلّ آخرين للوقوع في غرامه. وكلّ شيء يهون أمام أداء دانا مارديني (لينا)، التي لم تترك مجالاً للمنافسة بانفعالاتها امام الكاميرا، وقدرتها الفريدة على الصراخ والعتاب والبكاء والحبّ والكراهية بفنّ يتقنه قليلون في الوسط، فكلّ نفس تأخذه أثناء أدائها يقنعنا أكثر عن مدى انخراطها في الدور وشغفِها لتوصله إلينا نظيفاً مهذّباً.
ولا تكتمل رقصة التانغو الدرامية هذه، لولا المخرج رامي حنّا، الذي أمسَك بيدِ الحبكة والحوار والممثلين والأحداث، وراقصَها على بلاتو إخراجي وقِح بكادراته وجريء بحركة كاميرته، فتنقّل بالخطوات بين قصّة الغرام، والخيانة، والانتقام، والجريمة، والمال، فوقعَ وأوقعنا معه بحبّ واحدة قبل أن يرفضَها ويرفسَها ليأخذنا إلى أخرى بكلّ سلاسة ورشاقة... كلّ ذلك على وقعِ عزف مدير التصوير نيكولا خوري الذي أكسبَ كلّ مشهد مصداقيتَه، وعرف كيف يضيف الرعب تحت الكنبات، والرومنسية على فرشات غرف نوم منتشرة بين البحر والجبل، فأقعدنا على طرفِ كراسينا هنا وأغرَقنا في نعومة مساند صوفاتنا هناك.
نَم يا شهريار وارتاحي يا شهرزاد... فمع «تانغو» أصبح للدراما العربية طمعٌ لمنافسة نتفليكس، وميلٌ لاحترام ذوقِنا للرواية والمضمون، وأصبحنا نحن المشاهدين طمّاعين أكثر في متابعة أعمال مِن هذا المستوى الرفيع، وحتى أرفع...