كرّم المصرف الأميركي "جي بي مورغان" حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين له على سدّة حاكمية المصرف المركزي. أهمية هذا الاحتفال أنه يحمل في طيّاته عدّة رسائل على رأسها قدرة لبنان على البقاء مندمجًا في المنظومة المصرفية العالمية، والثقة بسياسة رياض سلامة النقدية، وتجديد الثقة في القطاع المصرفي اللبناني.
الاحتفال الذي أقامه المصرف الأميركي "جي بي مورغان" بحضور المدير التنفيذي للمصرف في أوروبا والسفيرة الأميركية في لبنان على شرف سلامة، حمل في طيّاته الكثير من الرسائل التي نادرًا ما تكون بهذا الوضوح من قبل أكبر قوّة اقتصادية ومالية في هذا العالم. تكريم سلامة يأتي قبل كل شيء اعترافًا من مصرف حجمه 2300 مليار دولار (أي 44 مرّة حجم الاقتصاد اللبناني!)، لقدرات سلامة المصرفية وللسياسة النقدية الحكيمة التي اتّبعها واستطاع من خلالها المُحافظة على الليرة اللبنانية وعلى الاقتصاد اللبناني من الانهيار.
لكن بالفعل، ما هو سبب هذا التكريم؟ التحليل الذي قمنا به أظهر أن الهندسات المالية التي قام بها سلامة تخطّت آفاق المصرفيين الأميركيين من ناحية الحنكة، والأهم استدامة مفعول هذه الهندسات. والدليل هو ثبات الليرة كما والنظام المصرفي الذي أصبح من أهم المراكز المالية العالمية على الرغم من كل الأحداث السياسية والأمنية التي عصفت بلبنان، وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي والمالي الذي يعيشه لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحتى يومنا هذا.
والمؤسف أن جهابذة السياسة النقدية في لبنان قاموا بحملة انتقاد شاملة وواسعة على الهندسات المالية التي قام بها، مُصنّفين بذلك أنفسهم أعلى مرتبة من المصرفيين الأميركيين الذين جعلوا من الولايات المُتحدة الأميركية المركز المالي العالمي الأول بعيدًا أمام الآخرين. على هذا الصعيد، يكفي القول إن بورصة نيويورك للأسهم وحدها تحوي على 60% من الاستثمارات العالمية في أسواق الأسهم. وبالتالي فإن تكريم سلامة من قبل مصرف أميركي يزن 2300 مليار دولار أميركي هو أنسب ردّ على جهابذة السياسة النقدية في لبنان.
الرسالة الثانية التي يحملها حفل تكريم سلامة من المصرف الأميركي، قالها المصرف الأميركي بوضوح عندما صرّح أنه يُكرّم سلامة لدوره الأساسي في جعل المصارف المراسلة تثق بالقطاع المصرفي اللبناني. هذه الثقة تعني باللغة المصرفية أن القطاع المصرفي اللبناني يمتثلُ لكل المعايير والقوانين الدولية، ويُبعد عنه أي شبّهة مهما كان نوعها. الجدير ذكره أن دور المصارف المراسلة هو أساسي في الاقتصاد، إذ لا يُمكن بأي شكل من الأشكال القيام بتجارة دولية مهما كان نوعها من دون اللجوء إلى فتح اعتمادات مع مصارف مراسلة، كما أنه من المستحيل تحويل أموال من لبنان وإليه، من دون اللجوء إلى المصارف المراسلة. لذا فإن ثقة المصارف المراسلة العالمية بالقطاع المصرفي اللبناني تعني عدمّ انهيار الاقتصاد اللبناني.
ولكن الرسالة المحورية هنا تبقى قدرة لبنان على الاندماج في المنظومة المصرفية العالمية والتي يجب المحافظة عليها مهما كان الثمن، لأن مقاطعة المصارف المراسلة للقطاع المصرفي اللبناني تعني القضاء على الكيان اللبناني.
الرسالة الثالثة التي يحملها حفل تكريم رياض سلامة من قبل المصرف الأميركي، تكمن في إمكانية لبنان الحصول على قروض من المصارف العالمية مقابل سندات خزينة "أوروبوند" كضمانة. وهذا الأمر له معانٍ اقتصادية كثيرة على رأسها رفع الثقة بالاقتصاد اللبناني، وهو ما يحتاج إليه لبنان مع وضع اقتصادي وسياسي مُتعثّر. الجدير ذكره أن عدداً قليلاً من البلدان في وضع لبنان يُمكنه الحصول على هذا النوع من القروض، والناتجة قبل كل شيء من الثقة بقدرة القطاع المصرفي، لكن أيضًا بالقدرات الكامنة في الاقتصاد اللبناني.
هذه الرسالة لها أهمّية معنوية للاعبين الاقتصاديين، لأن لبنان ليس بحاجة فعلًا للتمويل الخارجي، والسبب يعود إلى أن لبنان قادر على تمويل اقتصاده بالعملات الأجنبية من المصارف وليس فقط من تحاويل المُغتربين. هذه القدرة متأتية من السياسة التي فرضها سلامة على القطاع المصرفي من ناحية رفع رأسماله وسيولته في آن واحد، بالتزامن مع سياسة احترازية ضدّ المخاطر التي قد تواجه المصارف. الجدير ذكره أن المصارف اللبنانية أصبحت تحوي على أهم مراكز تقييم وتخمين للمخاطر التي قد تواجهها هذه المصارف في نطاق أعمالها (قروض، استثمارات...). بمعنى آخر، إن القطاع المصرفي قادر على تمويل حاجة الأسواق من العملات الأجنبية من دون أن يكون لذلك أي تأثير على الثبات النقدي.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن السياسة النقدية التي اتّبعها سلامة تستمر في إعطاء ثمارها، وآخرها هذه الرسائل التي يحملها أهمّ مصرف أميركي من خلال تكريمه رياض سلامة. ولسلامة نقول: "لسنين طويلة يا سيد".