قبل عام 2005 كان السوريون قد عطلوا الدستور والمؤسسات والقضاء، وأنهوا الحياة السياسية في لبنان نهائياً، واخذوا على عاتقهم توزيع الحصص على كل الناس، في المجلس والحكومة والمؤسسات والاجهزة، وفقاً لمصالح النظام او مصالح ممثليه في بيروت، وهم سوريون ولبنانيون.
وعندما انسحب السوريون، دخل اللبنانيون في صراع مرير على السيطرة أي من قبل وراثة النفوذ السوري، لكن أحداً منهم ولا حتى القوى الفاعلة في 14 آذار، لم يفكر في استعادة الدستور والمؤسسات لأن السباق على السلطة كان أقوى.
مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 2005، انتهت مرحلة التفاهمات الأميركية– السعودية– السورية، التي وُضع بموجبها حدٌ للحرب الأهلية من خلال مؤتمر وطني لبناني عقد في مدينة الطائف في 1989. منذ ذلك التاريخ، يُحكم لبنان إذن، بتوافق عنوانه «الطائف» لكنه يتغير بحسب تبدل موازين القوى الداخلية والإقليمية.
إقرأ أيضًا: إلى متى سيبقى لبنان حقلاً للتجارب؟
كثيرة هي الأطراف التي تعتبر نفسها متضررة من الإتفاق وتسعى، سراً في كثير من الأحيان، إلى التخلص منه ومن الضوابط التي فرضها على الحياة السياسية اللبنانية، على الرغم من أن الكثير من بنود الاتفاق لم ترَ النور، بل أن روح الاتفاق ذاتها قد كبلت بكثير من القيود لحظة اغتيال رينيه معوض رئيس الجمهورية الأول بعد الاتفاق،هذا بالاضافة الى التطبيق الاستنسابي للاتفاق من قبل سلطة الوصاية السورية بما يتناسب مع مصالحها. والهدف من التورية حول المواقف الحقيقية من "الطائف" هي بغية تجنب الاصطدام بقناعةٍ عند أغلبية كبيرة من اللبنانيين بأن البديل عن الاتفاق هو العودة إلى الحرب الأهلية.
وتاريخ الحروب الأهلية في لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر، ماهو إلا تاريخ معارك طائفية تنتهي دائماً بتسويات تتجاوز اطراف الصراع في الداخل يشرف عليها الطرف الخارجي الأقوى في كل مرحلة ويجيرها لمصلحته بالدرجة الاولى. بهذا المعنى، لا يعود أي مبرر أو معنى لاستئناف حرب تكون نهايتها معروفة مسبقاً.
علماً أن غياب الرفض العلني للاتفاق لا يلغي إنعدام امكانية المحاولة للالتفاف عليه وتطويقه تمهيداً لإسقاطه. هناك من يصوّر الطائف على أنه الاتفاق الذي جرّد المسيحيين من السلطة وأعطت المسلمين حكم لبنان تحت الوصاية السورية وأن الأوان قد آن لعودة الأمور إلى نصابها، أي إلى وضع حد لهيمنة المسلمين "السنّة منهم خصوصاً" على السلطة وتوفير الضمانات السياسية والأمنية والاقتصادية للمسيحيين الذين أخرجتهم هزيمتهم في الحرب عن إستكمال الدور الذي كرس السلطة لهم "ميثاق سنة 1943" أي احتلال الموقع الأول سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً.
يفرض اليوم "التيار الوطني الحرّ" و "حزب الله" مجموعة من الوقائع والاعراف التي لا تتناقض تناقضاً صارخاً مع "الطائف" لكن كل واحدة منها تشكل خطوة للابتعاد عنه. والآلية المحركة لتلك الخطوات تعتمد على حقيقة أن موازين القوى هي التي تشكل السلطة وليس الدستور والوثائق حتى ولو كانت تلك الوثائق من نوع الاتفاقيات التي أنهت الحرب. وفي النتيجة ان هؤلاء يملكون الكثير من الأسلحة القوية التي لا يترددوا في استخدامها في مسعاهم هذا، منها إنهيار تحالف 14 آذار وتفككه، وعدم قدرة هذا الفريق على تكريس إتفاق الطائف الذي يشكل روح الدستور، بالاضافة إلى إخفاق الربيع العربي، ومحاصرة الثورة السورية، على نحو يبرر تمرير بعض الاعراف التي لامكان لها في الدستور .وما هذه الاعراف الا خطوة باتجاه تشكيل المنصة التي تنطلق منها حملة "لمحو آثار" الطائف. تحت عنوان تحالف الاقليات.
إقرأ أيضًا: ماذا تعني الهوية الوطنية؟
في المقابل، وباستثناء بعض الإشارات العابرة من وليد جنبلاط وتيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية إلى ضرورة التمسك بالاتفاق، ليس هناك من يعمل على تطبيقه، أو يسعى لتجاوز الثغرات الكثيرة التي أحاطت به منذ تكليف النظام السوري الإشراف على تنفيذه.
يستدعي هذا الواقع تأكيداً على أن الطائف ما زال ضرورياً وأنه يشكل المدخل لمعالجة الخلل الحاصل على مستوى ممارسة السلطة في البلد. وبعد مرور أكثر من ربع قرن على إقرار الاتفاق، ما زال يشكل الإطار الناظم للحكم في البلد و مع التبدل في المواقف الدولية والعربية،الفرصة سانحة أكثر من أي وقت مضى لتطبيق الطائف لأنه يبقى المرآة العاكسة للحقائق اللبنانية، ومع تبدل المواقف الدولية والاقليمية تصبح الأطراف المعترضة -علناً أو سراً- عليه عاجزة عن الوصول إلى مستوى القوة اللازمة للتحرر الرسمي من الاتفاق.
ما كان يجري في السابق نوع من الخروج البطيء من الطائف من دون ضجيج في انتظار اللحظة المناسبة لشطبه من المعادلة اللبنانية، الآن اتفاق الطائف مجدداً يشكل المدخل الصحيح والسليم لمعالجة الخلل الذي تعاني منه التركيبة اللبنانية.