أثارت دراسة في مجلة «نيتشر» أن منطقة الخليج هي أولى المناطق المؤهلة لتصبح غير صالحة للسكن بسبب تغير المناخ هلعاً حين نُشرت قبل سنتين. ونظراً لأن هذه المنطقة منبسطة وذات سماء صافية أغلب الأيام، وتحوي جسماً مائياً ضحلاً، فإن ارتفاع درجات الحرارة، الذي يترافق مع زيادة الرطوبة نتيجة التبخر، يظل خطراً جاثماً يهدد مدن الخليج الكبرى بتجاوز «عتبة البقاء».
وتُحدَّد «عتبة البقاء» بمقدار الحرارة والرطوبة اللتين يستطيع فيهما الإنسان العيش في غياب التبريد الصناعي، وتصل هذه العتبة إلى ست ساعات في منطقة غير محمية تكون حرارتها 35 درجة مئوية. ولئن كانت الدول الخليجية الغنية قادرة على التكيف مع ارتفاع درجات الحرارة إلى حد ما، فإن الدول المجاورة ذات الدخل المنخفض، مثل اليمن، ستكون قدرتها على مواجهة المشكلة محدودة.
وحتى في دول المنطقة الغنية، توجد حالات يضطر فيها الناس إلى البقاء في العراء لوقت طويل كما في موسم الحج أو في مواقع المشاريع الهندسية، وهذا يؤدي إلى زيادة التعرض لضربات الشمس وارتفاع احتمالات الإصابة بأمراض وعائية مثل السكتات الدماغية.
ولكن المشكلة لا تقتصر على ارتفاع درجات الحرارة نتيجة الظروف الطبيعية للمنطقة وتغير المناخ العالمي.
فهي تشمل أيضاً بقاء درجات الحرارة مرتفعةً إلى ما بعد غياب الشمس، بفعل ظاهرة جزر الحرارة الحضرية التي تعاني منها المدن في دول الخليج وسائر أنحاء العالم.
«جزر الحرارة الحضرية» ظاهرة جوية عُرفت مع نشوء المدن الضخمة منذ القرن التاسع عشر، وهي حصيلة الدور الذي تلعبه مواد البناء والرصف الطرقي في الحد من انعكاس أشعة الشمس، بالمقارنة مع ما كان يقوم به الغطاء النباتي في المناطق التي شهدت توسعاً حضرياً. وينتج عن ذلك إنبعاث طاقة مضافة على شكل حرارة إلى الهواء المحيط.
وكلما كان السطح أكثر قتامة، نقص انعكاس الأشعة وارتفعت حرارة الهواء المحيط. وللمقارنة، فإن الطرق الإسفلتية النظيفة تعكس ما نسبته 4 في المئة فقط من ضوء الشمس، في حين تصل النسبة إلى 25 في المئة في المراعي الطبيعية و90 في المئة في السطوح المغطاة بالثلج.
جزر الحرارة الحضرية
تشغل المناطق الحضرية 2 في المئة من سطح اليابسة، وهي تعاني بدرجات متفاوتة من ظاهرة جزر الحرارة. ووفقاً لوكالة حماية البيئة الأميركية، تزيد درجة حرارة مدينة نيويورك بمعدل 1 إلى 3 درجات مئوية عن درجة حرارة الريف المحيط بها، وتصل هذه الزيادة إلى 12 درجة مئوية في بعض أمسيات الصيف.
وقد اعتبر بعض المشككين في حصول التغير المناخي أن الاحترار العالمي هو مجرد وهم صنعته آلاف محطات الرصد الجوي الريفية، التي أصبحت مع الزمن محاطة بمناطق حضرية وتأثرت بجزر الحرارة. ولتقييم هذا الأثر، جرت مقارنة اتجاهات الحرارة في المناطق النائية مع تلك في المناطق التي شهدت توسعاً مدنياً، فكانت الفوارق ضئيلة على المستوى العالمي.
جزر الحرارة الحضرية يمكن أن تتحول إلى ظاهرة قاتلة، بخاصة في الليل عندما يكون كبار السن والمرضى في حاجة للراحة من قيظ النهار. ووفقاً لبحث جديد نشره المجمع الأميركي لعلم أمراض القلب مؤخراً، يمكن لزيادة درجات الحرارة أن تسبب ارتفاعاً حاداً في حصول النوبات القلبية.
ويبدو أن هذا ما حصل خلال موجة الحر في أوروبا سنة 2003، التي أودت بحياة 70 ألف شخص كان يعيش مجملهم في منازل من دون تكييف. ووفقاً للأطباء، لم تكن درجات الحرارة التي قاربت الأربعين درجة مئوية هي السبب المباشر لوفاة هذا العدد الكبير من البشر، وإنما كانت الوفيات نتيجة بقاء درجة الحرارة مرتفعة خلال الليل وتجاوزها 30 درجة مئوية.
وثمة تهديدات مماثلة تواجهها مناطق أخرى سريعة التمدن، بما فيها الصين والهند وأفريقيا، ستزيد مساحتها الحضرية في 2030 بمقدار ستة أضعاف مقارنة بما كانت عليه الحال عام 1970. وهذا سيجعل السكان في هذه المناطق «معرضين بشدة لخطر تغير المناخ المدفوع بتغير استخدامات الأراضي».
كيف تخفض المدن حرارتها؟
تناقش دراسة حديثة، نشرت في دورية «نيتشر جيوساينس»، الفكرة التي تقول إنه إذا كانت الألوان القاتمة لمواد البناء والرصف ترفع درجة حرارة المدن، فهل يساعد استخدام الألوان الفاتحة في خفض حرارتها؟ وتجيب الدراسة أن هذا الإجراء كفيل بإنقاص الحرارة بمقدار 2 إلى 3 درجات مئوية في أيام الصيف الحارة. وهذا من شأنه أن ينقذ أرواح الكثيرين، حين تزداد جدوى الأسطح العاكسة مع زيادة الإشعاع الشمسي.
هناك العديد من المبادرات الصغيرة لزيادة انعكاس أشعة الشمس عن أسطح المباني. فعلى سبيل المثال، تنص قواعد البناء في مدينة نيويورك منذ العام 2012 على طلي الأسطح العلوية بمواد بيضاء عاكسة لأشعة الشمس. وكان متطوعون من أبناء المدينة بادروا بطلاء نحو 700 ألف متر مربع من الأسطح القاتمة بالدهان الأبيض ضمن مبادرة «السطح البارد».
تحاول مدينة شيكاغو السير على خطى مدينة نيويورك. وفي السنة الماضية أطلقت مدينة لوس أنجليس برنامجاً لطلاء شوارعها الإسفلتية بمادة خاصة تعكس أشعة الشمس. وكانت اختبارات أجرتها المدينة أظهرت أن تغطية الإسفلت بهذه الطبقة يقلل الحرارة القريبة من سطح الأرض بمقدار 10 درجات مئوية في أيام الصيف الحارة.
وهناك خيار آخر للحد من ظاهرة جزر الحرارة الحضرية يعتمد على إضفاء اللون الأخضر على المدن، من خلال زراعة النباتات والأشجار. في 2016، كانت سان فرانسيسكو أول مدينة أميركية تفرض على الأبنية الجديدة أن تكون صديقة للبيئة، بما في ذلك اعتماد الأسقف الخضراء. وفي السنة الماضية، أعلنت نيويورك عن برنامج بقيمة 100 مليون دولار لإحياء التبريد بالأشجار. كما يعمد بعض المهندسين إلى بناء «جدران حية» للأبنية، تغطيها النباتات.
أيهما أفضل: سقف أبيض أم سقف أخضر؟ الآراء هنا متباينة، لكن زراعة النباتات على الأسطح لها العديد من الميزات المضافة. فإلى جانب مساهمتها في التبريد خلال موسم الصيف، تعمل الأسطح الخضراء كطبقة عازلة تحافظ على حرارة المباني خلال موسم الشتاء.
يبقى خيار ثالث يمكن أن يدخل على خط المنافسة، وهو تغطية الأسطح بالألواح الشمسية. ومن شأن ذلك أن يخفض درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة خلال فصل الصيف في مدينة مثل سيدني الأوسترالية.
لكن بعض الدراسات وجدت نتائج معاكسة لاستخدام الألواح الشمسية، إذ إنه في المزارع الشمسية الكبيرة في الصحراء كانت الألواح تعمل كغطاء عازل في الليل يحد من تبريد الرمال.
إن معالجة جزر الحرارة الحضرية من خلال زيادة الانعكاس ليست كافية لمواجهة تغير المناخ العالمي. فلو تم طلاء كل الأسقف والشوارع في جميع المدن حول العالم بالدهان الأبيض، فإن ذلك قد يؤدي إلى تأخير الاحترار العالمي لمدة 11 سنة فقط. لكن القيام بهذا العمل يساعد من دون شك في تخفيف أخطار الحرارة الزائدة داخل المدن وينقذ حياة كثيرين، عدا عن تلطيفه الأجواء.
(عبدالهادي النجّار)