يأتي مشهد الاحتجاجات في الأردن وفق سياق متقادم يذكّرنا بالإطلالات الأولى لموسم “الربيع العربي” التي انطلقت قبل سبع سنوات. ولئن تحوّلت احتجاجات الأمس إلى كوارث متدحرجة في سوريا وليبيا واليمن، فإن الأردنيين يعيدون إنعاش ما بات متقادما بنسخة محدثة تطهّر الأداء الجمعي من أي مطالب وشعارات تتجاوز السبب والمسبب وما بينهما.
يصوّب المحتجون الأردنيون آليات الاحتجاج. لا أحد يهتف لإسقاط النظام ولا أهداف سياسية يقودها تيار أيديولوجي دنيوي أو ديني ولا أجندات عابرة للحدود تترجل داخل حشود المحتشدين. لم تقم الإضرابات فجأة ولم تندلع المظاهرات فجأة.
تم التحضير للأمر على مدى الأسابيع الأخيرة بشكل علني بعيدا عن أي غرف مشبوهة وبعيدا عن أي سرية خبيثة تعمل في الخفاء. أعلنت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل شفاف أن الشارع سيقف بالمرصاد ضد إجراءات حكومة هاني الملقي.
لا تبدو الدولة الأردنية مربكة. ينضبط الحراك على أهميته داخل حدود الأردن وتحت سقف العيش الأردني. يجري النزال بين شرائح متضررة من قوانين الحكومة وقراراتها كما يجري الأمر تماما في أي دولة متقدمة في هذا العالم. ينخرط في ذلك النزال مواطنون ونقابات وشخصيات عامة وبرلمانيون وإعلام ووزارات معنية ورجال أمن. يبدو الأردن في حالة سجال داخلي تتنازعه ضغوط هذا الطرف ومرونة ذاك الطرف وعناد ذلك الطرف. وفي ذلك، للمفارقة، ما يكشف عن أردن يتنفس لا عن أردن يختنق.
يتلخص غضب الأردنيين في شعار بسيط: “معناش”. وفي ذلك الشعار في بساطته ما يقر بأن البلد يعاني من أزمة اقتصادية وأن الأردن يحتاج إلى الخروج من عنق الزجاجة وأن للحكومة الحق في تحري المنافذ الناجعة بالتنسيق مع المؤسسات المالية الدولية لضبط الإنفاق ورفع الموارد. لكن المشكلة كما يراها المحتجون تتلخص في كلمة واحدة: “معناش”.
يتحاور الأردنيون. مفاوضات بين الحكومة والنقابات للوصول إلى تسويات. وعن تلك المفاوضات تخرج همهمات حلّ أو انسداد يحتاج إلى مفاوضات أخرى. في لغة الأردنيين حداثة صاعقة لم نشاهدها في تلك التي راجت في سوريا وليبيا واليمن. ظهرت القطيعة بسرعة في تلك البلدان بين “الشعب” و”النظام” إلى حد المجاهرة بالطلاق الكامل والمواجهة الشرسة بأغلظ السبل لـ”إسقاط النظام”.
قد يقول قائل إن الأردنيين، نظاما وشعبا، استخلصوا العبر من الكوارث المحيطة فراحوا يمارسون الحيطة والتأني والحذر مما يرومونه من حراكهم وفي التكتيكات التي تستخدمها السلطات للتعامل مع سخط الحشود. بيد أن عودة إلى السنوات الأولى لـ”ربيع” العرب تذكرنا بأن الأردن أصابته تلك العدوى فخرج الناس وخرج رجال الأمن، قال كل قولته، فتصارخوا وتعاركوا وتناتشوا حتى انتهى حراك ذلك الزمن دون أن يسقط قتيل واحد في وقت كانت المجازر ترتكب في الجوار باسم إسقاط النظام والدفاع عنه.
يتصرف الأردن وفق مسلّمة أن الحراك الحالي سينتهي ولن يتجاوز حدود الأسباب التي خرج بسببها. يستنتج المراقب بسهولة أن الدولة ليست بصدد التراجع السهل وأن ما أمر به العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بشأن “تجميد” قرارات الحكومة يكشف عن أن رأس السلطة يرعى الوفاق والسلم الأهليين دون أي تشكيك في صحة الحيثيات التي انطلقت منها الحكومة الأردنية لإطلاق قوانينها وتدابيرها.
وواضح وفق ذلك المنحى، وحتى بعد استقالة هاني الملقي، أن نهايات السجال ستخلص إلى تسويا تصوّب من إيقاعات تلك القرارات وتخفف من وقعها بحيث لا يسقط الإصلاح الحكومي ولا يخيب سعي المحتجين.
وأغلب الظن أن من قرر إطلاق تلك الرزمة القاسية من قوانين “شد الأحزمة” كان يتوقع أن بعد هذا الفعل ردّ فعل، وأنه لا شك سيخرج من جيبه الخلفي “الخطة ب” لتمرير ما يمكن أن يكون وسطيا بين الممكن والمستحيل.
أن ترفع الحكومة النسب التصاعدية لضريبة الدخل وأن يستقر رفع الدعم الحكومي عن بعض السلع على ارتفاع في أسعارها وأن ترتفع أسعار المحروقات…إلخ، فإن ذلك أصاب الطبقة الوسطى مباشرة فاستفزها وأخرجها من خلف الكواليس إلى واجهة المسرح.
يتأمل المراقب حشود الشبان والشابات المنحدرين من هذا الزمن يتحركون بأدوات العصر ومفرداته. تظهر من داخل الحشود عصبية تدافع عن الأردن مفهوما وهوية وبلدا بالرؤى الحديثة. وفي سخط الطبقة الوسطى من أطباء ومهندسين ومحامين وحرفيين ومعلمين… إلخ ما يوقظ قماشة الأردن الأصلية صوب هدف الدفاع عن “المصالح” بالمعنى المادي.
ولتلك المصالح شكل وشبكات وقيم وأرقام ومستويات حسابية تهددها قوانين الحكومة. بيد أن تحرّك الطبقة الوسطى يوفّر إنذارا مقلقا لأولي الأمر، ذلك أن حراك الطبقات ما تحت الوسطى قد يأخذ أبعادا يصعب استشرافها يسهل لأصحاب الأجندات المستوردة اختراقه.
يعرف الأردنيون أن صخبهم الداخلي يتصادف مع لحظات تاريخية حساسة تعيشها المنطقة تدلي بدلو مباشر على أمن الأردن كما مساره ومصيره. ولئن تكثر الجلبة على الحدود الأردنية السورية وتنشط ورش دولية داخل الغرف الداخلية في عمان لإخراج تسوية ما في جنوب سوريا، فإن مستقبل التحّولات في العراق وفلسطين كما تلك المتعلقة بمصير المواجهة الدولية مع إيران، يطرح داخل المملكة أسئلة حول مستقبل البلاد وموقعها داخل خارطة جيواستراتيجية شديدة الوهن غامضة الملامح.
داخل ذلك السياق يدور همس كثير حول وظيفة ودور الأردن داخل مشهد سياسي إقليمي ودولي مستجد يقلب صفحة ما كان متعارفا عليه منذ قيام المملكة الأردنية الهامشية. تجهد عمان بوضوح لإيجاد تموضع ما بين علاقة تاريخية مقلقة مع واشنطن وصعود نفوذ موسكو، لا سيما في سوريا. تتروى المملكة في الذهاب بعيدا في مواجهة إيران على الرغم من أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تذهب باتجاه ما حذّر منه الملك عبدالله الثاني عام 2004 من قيام هلال شيعي تقوده طهران في المنطقة.
ويسعى ملك البلاد إلى تطوير علاقات صعبة مع دول الخليج دون الانزلاق داخل الاصطفافات المعقدة. ووفق تلك المعطيات المقلقة يواجه الأردن علله الاقتصادية وفق منظومة تقنية دولية معروفة في معالجاتها ومعروفة في أعراضها الجانبية الخطيرة.
“معناش”، هذا جلّ ما في الأمر. هكذا يعبر الأردنيون عن تململهم. المسألة في عرفهم أن ما تطلبه الحكومة يفوق طاقاتهم وإمكاناتهم. يفتح السجال دفاتر عتيقة حول سياسات اعتمدت وقرارات اتخذت وأموال أنفقت وظواهر فساد سجلت أوصلت الوضع الاقتصادي إلى ما هو عليه الآن. لا يفهم المحتجون لماذا عليهم أن يدفعوا ثمن خطايا ارتكبت دون مشورتهم، وبالتالي فأن يُطرق باب الأردنيين فذلك يستدعي إعادة قراءة لأصول الحكم وعلاقته بالبلد وناس البلد.
يفصح مشهد “الدوار الرابع” في عمان كما مشهد مناطق الأردن الأخرى عن حالة صحية يتحلّق الأردنيون حولها ملكا وحكومة وبرلمانا ونقابات وحشودا، لا سيما تلك الشابة. تبدو “معناش” صرخة كرامة وحق وليست صرخة استجداء واستعطاف. غير أن في صدى ذلك الهتاف رسائل مباشرة إلى أصحاب السلطة في الأردن كما إلى البيروقراطيين في مكاتب الصندوق الدولي في واشنطن كما إلى العواصم المعنية والمتضررة من أي خلل داخل الأردن. والظاهر أن كثيرا من تلك الرسائل قد وصلت!