صورة نهر دجلة مخترقاً مدينة الموصل المدمرة، وتوقفه عن الجريان بفعل بدء تركيا تشغيل سد أليسو الذي يحجب أكثر من نصف مياه النهر عن العراق، هي صورة مذهلة في كشفها عن تراكب الكوارث وتعاقبها على ذلك البلد. النهر وقد صار أقرب إلى بؤرٍ مائية راكدة محاطة بأحياء صارت ركاماً، يدفع إلى الاعتقاد بأن الموصل، وهي بمعنى من المعاني هبة دجلة، فقدت سبباً آخر من أسباب بقائها مدينة. العام الفائت دمرت الحرب 90 في المئة من أحيائها القديمة، واليوم يأتي جفاف دجلة ليكمل المهمة، فيما أهلها يقيمون في مخيمات اللاجئين في محيطها.
تركيا قررت تشغيل السد فأوقفت تدفق المياه. دجلة الذي اخترق المدينة، وشكل حاجزاً بين أيسرها وأيمنها صار اليوم مستنقعاً. الجسور الخمسة التي تصل ضفتي النهر في المدينة، والتي لطالما أتاحت لأهل الأيمن مغادرة أحيائهم المختنقة نحو امتدادات المدينة، كان سبق أن فجرتها «داعش»، وهو ما جعل النهر حداً فاصلاً بين موصلين، وجاء الحصار ثم الحرب ليكملا المهمة. أما اليوم وقد جف النهر بفعل سد أليسو، فالمدينة ستكون عرضة لتحولٍ هائل في وظائفها وفي أشكال تصريف ما تبقى من حاجاتها.
نهر دجلة صار أقل من نصفه! والموصل هبة دجلة، والنهر لطالما كان جزءاً من لغة المدينة ومن فهمها لنفسها. يقول الموصلي حين تسأله عن مكان إقامته «منزلي على الشاطئ الأيسر ومنزل أهلي على الشاطئ الأيمن». المدينة أرسلت أجيالها الجديدة إلى الشاطئ الأيسر بعد أن ضاق الأيمن بسكانه. من الأيمن تدفق «داعش» أيضاً، وطاف على المدينة مذكراً بأن الموصل تأتيها الجيوش على نحو ما أتاها دجلة، أي طوفاناً.
دجلة هو الحد الفاصل بين الموصل وبين كل ما أصابها. الأميركيون وصلوا إلى ضفته قبل أن يدخلوا المدينة في العام 2003. «داعش» عبره في العام 2014 حين قدم من الصحراء ووصل إلى أيمنه ومنه قفز قفزته الهوائية الكبرى متجاوزاً الجسور الخمسة. التحالف الدولي الذي خاض الحرب على «داعش» وقف عند ضفته وبقي يحارب تسعة أشهر قبل أن يعبره بعد أن حول الموصل القديمة ركاماً.
الصور المقبلة من الموصل لدجلة تُشعرك أنه صار أشبه بمستنقعات مياه راكدة. والوظيفة الكبرى للنهر ستكف عن تزويد «المُصلاويين» بعبارات النهر التي تملأ لغتهم. ففي لهجة أهل الموصل بعدٌ مائي، وعبارات النهر مبثوثة في كلامهم وفي علاقاتهم وفي أنماط عيشهم.
النهر هائل في جريانه في المدينة، وهذا ما رتّب على أهلها وعلى الجيوش الغازية وعلى النازحين منها حقائق لم تعد اليوم ثابتة. أقيمت مخيمات النازحين في الأيسر وما بعده، ووقفت الجيوش على تخوم الشاطئ الأيمن، وأقيمت حواجز الجيوش والحشود على الجسور بين الضفتين. واليوم أقدمت أنقرة على وقف تدفّق أكثر من نصف مياه النهر. الانهيار الناجم عن ذلك يفوق الانهيار الذي أصاب المدينة بفعل تدمير أكثر من 90 في المئة من أحيائها القديمة، فهو أصاب هذه المرة ما لا تستطيع الطائرات أن تصيبه. أصاب مزاجاً ولغة ووظيفة، والأهم أنه أصاب علاقة المدينة بنفسها، فلم يعد عبور النهر انتقالاً من طور إلى طور ومن زمن إلى زمن ومن جيلٍ إلى جيل. صار النهر مستنقعاً وفَتَحَ الموصل على احتمالات التصحُّر. أهل الأيمن في مخيماتهم غير البعيدة لم تعد المياه تفصلهم عن منازلهم المدمرة. لم يعد الهرب من الصحراء مجدياً.
أميركا غزت المدينة في عام 2003 و «داعش» عبر النهر في العام 2014 وقاسم سليماني وقف بدوره عند ضفة دجلة ومارس عبوراً مضاداً في العام 2016. اليوم أتى دور أنقرة، فالموصل مخلعة الأبواب، كما العراق كله، وما أكثر الزوار غير المحبين، وما أكبر الكارثة وما أسرعها في قيظ هذا الصيف.