يمثل سعر الصرف العمود الفقري الذى تعتمد عليه اقتصاديات أي دولة من دول العالم سواء كانت من الدول المتقدمة أو النامية، لذلك تسعى معظم الحكومات إلى انتهاج سياسات تهدف إلى ضمان استقرار سعر صرف عملاتها لتجنيب دولها التقلبات الحادة التي تمر بها العملات من فترة لأخرى. ويتعاظم هذا الدور في الدول النامية لأن معظم هذه الدول تعاني من انفتاح اقتصادياتها بشكل كبير ومن عجز أكبر في ميزان مدفوعاتها، مما يجعلها أشد تأثراً بالتقلبات الاقتصادية الدولية، وأكثر عرضة للأزمات والمشاكل الخارجية، مما ينعكس سلباً على درجة الاستقرار المحلي فيه. في ثمانينيات القرن الماضي، ارتفع سعر الدولار من 3.43 ليرات لبنانية لكل دولار عام 1980 إلى 6,8 ل.ل./د في آخر العام 1984، و16.41 عام 1985، الى 455 ل.ل./د في آخر العام 1987، و842 ل.ل./د في آخر العام 1990؛ ولكن في عام 1992 وصل سعر الدولار الواحد الى 2825 ليرة لبنانية. ويستدل من جدول تاريخي لسعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الاميركي، أن العملة اللبنانية لم تكن يوماً مرتبطة بوقائع الاقتصاد المحلي بقدر ارتباطها بتطورات الوضع الإقليمي والدولي.
يعيش لبنان في ظل أزمة مالية واقتصادية وعقوبات دولية وإقليمية قد تتحوّل إلى أزمة مستفحلة تنسحب تداعياتها على سعر صرف الليرة اللبنانية وعلى القطاع المصرفي. لا يزال النمو منخفضاً، حيث تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى تحقيق نمو يراوح بين 1- 1.5% تقريبا في عامي 2017 و 2018. ولا تزال قاطرات النمو التقليدية في لبنان – وهي السياحة والعقارات والبناء – تتسم ببطء الحركة، ومن غير المرجح أن تحقق تعافياً قوياً في وقت قريب. إن حجم نمو الدين العام مرتقب أن يلامس الـ90-92 مليار دولار خلال هذا العام، مما يعني أن لبنان سيبقى يعاني ارتفاع الدين بالنسبة إلى الناتج المحلي. تصل نسبة المديونية إلى 150% من الناتج المحلي اليوم وهي ثالث أعلى نسبة في العالم، مع نسبة في العجز المالي العام تناهز 8% من الناتج المحلي الإجمالي وهي بين العشر الأول في العالم.
موقف المالية العامة بالغ الصعوبة
وبحسب بيان خبراء الصندوق في ختام بعثة إلى لبنان في شباط العام 2018 لا يزال موقف المالية العامة بالغ الصعوبة وينطوي على مخاطر كبيرة وهناك اختلالات خارجية كبيرة ومزمنة حيث يعتبر عجز الحساب الجاري الكبير والمزمن وغيره من الاختلالات القائمة بمثابة دليل على وجود مبالغة كبيرة في تقييم سعر الصرف الفعلي الحقيقي. ويواجه لبنان تحديات تعوق الحفاظ على تدفقات الودائع. ففي السابق، كانت تدفقات الودائع الأجنبية مصدراً أساسياً لتمويل العجز الكبير في الحساب الجاري والموازنة العامة. غير أن نمو الودائع شهد تراجُعاً في السنوات الأخيرة، حيث بلغ نمو ودائع القطاع الخاص 3.8% في 2017 – وهو أدنى من متوسط النمو في السنوات السابقة. ويعكس التصنيف الائتماني السيادي التحديات التي تواجه لبنان. ويؤدي اعتماد لبنان المتزايد على تدفقات الودائع الداخلة إلى زيادة تعرض الاقتصاد للتقلبات المفاجئة في ثقة المودعين. وعلى الرغم من تأكيد حاكم مصرف لبنان سلامة في 11 آذار 2018 أن "سياستنا في مصرف لبنان تستند إلى استقرار سعر صرف الليرة، وهي سياسة ثابتة ولدينا كل الإمكانات للحفاظ على هذا الاستقرار"، مشيراً إلى أن "موجودات المصرف المركزي 43,2 مليار دولار، واحتياطات الذهب تفوق الـ11,5 مليار دولار، يضاف اليهما المبالغ الموجودة للمصارف اللبنانية لدى المصارف المراسلة والتي تبلغ نحو 12 مليار دولار، وهذا رقم كبير جداً بالنسبة إلى لبنان". إلا أن بعض الخبراء اعتبر أن سياسات مصرف لبنان الحالية ساهمت في الحفاظ على الاستقرار، ولكنها خلقت تشوهات سوقية أيضاً. فهي أدت إلى خلق أموال احتياطية جديدة، وأضعفت الميزانية العمومية لمصرف لبنان، وخلقت مجموعة مختلفة من المخاطر على الاستقرار المالي من طريق تعريض البنوك لمخاطر سيادية كبيرة وتفاوتات في آجال الاستحقاق.
ووفقاً لتقرير البنك الدولي المعنوَن "آفاق الاقتصاد الإقليمي – أيّار ٢٠١٨"، توقع أن يُؤثِّر تنامي عجز الميزان التجاري والصعوبة المتزايدة في اجتذاب تدفقات رأس المال الوافدة على وضع احتياطيات النقد الأجنبي. وتظهر ميزانية مصرف لبنان تراجعاً في الموجودات بالعملة الأجنبية بمبلغ قدره 206.65 ملايين دولار خلال النصف الأول من شهر أيار 2018 إلى 42.91 مليار دولار من 43.12 مليار دولار في نهاية شهر نيسان.
وبعنوان "كيف يمكن لواشنطن مواجهة حزب الله"، قدمت مجلة "فورين أفيرز Foreign affairs" الأميركية اقتراحاً للكونغرس لعزل الحزب. هذه المخاوف عبّرت عنها وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني منذ أشهر، حين أكدت في تقرير لها أن تشديد العقوبات الأميركية على "حزب الله" قد يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على التدفقات الأجنبية إلى البلاد وعلى قطاعها المصرفي. وقد أصدرت وكالة "فيتش" العالمية للتصنيف الائتماني حول الوضع اللبناني تقريراً أشارت فيه إلى أن العقوبات الاقتصادية المتوقعة ضد "حزب الله" قد تؤدي إلى هروب الاستثمارات من البلد وانخفاض الودائع الأجنبية مما سيؤدي إلى كوارث اقتصادية. آخر إحصاءات متوافرة عن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تشير إلى أنها تمثل 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي حين تبقى المملكة العربية السعودية المصدر الأكبر للتحويلات الى لبنان، يلاحظ انّ مجموع التحويلات من اميركا واوروبا هي التي تشكّل الحصة الكبرى الاجمالية. وعليه، فإنّ هذه التحويلات تشكّل نسبة 20% من مجموع التحويلات المالية الى لبنان. الولايات المتحدة الاميركية تأتي في المرتبة الثانية وهي مصدر 16% من التحويلات الخارجية إلى لبنان. تمثل بلدان الخليج الستة مصدراً لـ 60 % من تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج.
إن أولى تداعيات الانسحاب الاميركي من الاتفاق النووي الايراني، ظهرت على الصعيد المحلي، في تراجع قيمة سندات لبنان الأجنبية (الأوروبوند) إلى أدنى مستويات لها. وتكبّدت سندات بقيمة مليار دولار تستحق في العام 2022 أشدّ الخسائر، إذ هوت إلى 90.66 سنتاً وهو أدنى مستوى لها منذ تشرين الثاني 2017، وفقا لبيانات "رويترز".
إذاً، إن تراجع تدفق التحويلات من الخارج، والتي تفوق نسبتها حالياً عشرة في المئة من إجمالي الناتج المحلي اللبناني في السنة، سوف تخفض أكثر فأكثر من احتياطيات العملات الأجنبية المتوافرة للحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية.
وفي ظل مالية عامة تتجه نحو الإفلاس وضعف ثقة المودعين ونمو اقتصادي منخفض وعقوبات أممية قادمة، هل تستطيع هندسات مالية جديدة الحفاظ على سعر صرف الليرة؟ أم إن وجود النازح السوري هو ضمانة دولية بعدم انهيار الاقتصاد؟