رُفعت الرعاية الدولية لتطبيق اتفاق الطائف منذ اغتيال رئيس الورزاء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 2005. انتهت التفاهمات الأميركية– السعودية– السورية، التي وُضع بموجبها حدٌ للحرب الأهلية بعد حوالى السنة من التوصل إلى الاتفاق في 1989. منذ 13 سنة، يُحكم لبنان إذن، بتوافق عنوانه «الطائف» لكنه يتغير بحسب تبدل موازين القوى الداخلية والإقليمية.
عديدة هي الأطراف التي تشعر بالبرم من الاتفاق وتسعى، سراً في أكثر الأحيان، إلى التخلص منه ومن الضوابط التي فرضها على الحياة السياسية اللبنانية، على الرغم من أن الكثير من بنود الاتفاق لم ترَ النور، بل أن روح الاتفاق ذاتها قد قيدت بالسلاسل منذ اغتيال رئيس الجمهورية الأول بعد الاتفاق، رينيه معوض. الغاية من التكتم حول المواقف الحقيقية من «الطائف» هي تجنب الاصطدام بقناعةٍ عند فئات واسعة من اللبنانيين بأن البديل عن الاتفاق هو العودة إلى الحرب الأهلية.
وتاريخ الحروب الأهلية في لبنان منذ صراعات جبله أواسط القرن التاسع عشر، هو تاريخ اقتتال طائفي ينتهي دائماً بتسويات فوقية يشرف عليها الطرف الخارجي الأقوى في كل مرحلة ويسخرها لمصلحته أولاً. ما من داع، بهذا المعنى، لاستئناف حرب نهايتها معروفة مسبقاً.
بيد أن تجنب النبذ العلني للاتفاق لا يلغي المحاولات الحثيثة للالتفاف عليه وتطويقه تمهيداً لإسقاطه. هناك من يصوّر الطائف على أنه الوثيقة التي أعطت المسلمين حكم لبنان تحت الوصاية السورية وأن الأوان قد آن لعودة الأمور إلى نصابها، أي إلى إزالة هيمنة المسلمين (السنّة منهم خصوصاً) على السلطة وتوفير الضمانات السياسية والأمنية والاقتصادية للمسيحيين الذين أقصتهم هزيمتهم في الحرب عن أداء الدور الذي أناطه بهم ميثاق سنة 1943، أي احتلال الموقع المهيمن سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
يفرض «التيار الوطني الحرّ» اليوم مجموعة من الوقائع التي لا تتناقض تناقضاً صارخاً مع «الطائف» لكن كل واحدة منها تشكل خطوة للابتعاد عنه. المنطق الناظم للخطوات تلك يرتكز على حقيقة أن موازين القوى هي التي ترسم السلطة وليس الوثائق ولو كانت هذه من نوع الاتفاقيات التي تنهي الحروب. وفي جعبة «التيار» ترسانة من الأسلحة القوية التي لا يتردد في استخدامها في مسعاه هذا، من إفلاس تحالف 14 آذار وتفككه، إلى إخفاق الثورات العربية، وخصوصاً الثورة السورية، على نحو يبرر التحالف مع من واجه «التكفيريين» و «الدواعش» الذين صارت الثورات تُختصر بهم. التحالف هذا بات المنصة التي تنطلق منها حملة «لإزالة آثار» الطائف.
في المقابل، وباستثناء بعض الإشارات العابرة من النائب السابق وليد جنبلاط إلى ضرورة التمسك بالاتفاق، ليس هناك من يدافع عنه دفاعاً واعياً، أو يعيد صوغه لسد الثغرات الكبيرة التي اعتورته منذ تكليف حافظ الأسد الإشراف على تنفيذه.
يستدعي هذا الواقع سؤالاً عما إذا كان الاتفاق ما زال حياً وضرورياً أو أنه بات جثة تنتظر من يدفنها. وبعد مرور أكثر من ربع قرن على إقرار الاتفاق، وبعد خسارته رعاته الدوليين والتبدل العميق في الأجواء الدولية والعربية والمحلية التي أفرزته، لم يعد الطائف يعكس الحقائق اللبنانية، لكن الأطراف المعترضة -علناً أو سراً- عليه لم تصل بعد إلى مستوى القوة اللازم للتخلص الرسمي من النص. ما يجري هو خروج بطيء من الطائف من دون صخب في انتظار انقشاع غبار الحروب القريبة.