ربّما كان تضخّم الدور الإيرانيّ التطوّر الأبرز الذي شهدته منطقتنا، على صعيد الجغرافيا السياسيّة، بعد نهاية الحرب الباردة. التضخّم هذا جاء نتيجة لتراكم أحداث يمكن وصفها بأنّها عراقيّة على نحو أو آخر: حرب صدّام حسين على إيران صلّبت نظامها الخمينيّ. حرب صدّام على الكويت وضعت العراق في صدارة المغضوب عليهم دوليّاً وأعفت إيران من الغضب. حرب أميركا على العراق (وأفغانستان) ثمّ انسحابها منه أطلقت إيران من عقالها.
في سوريّة، توفّرت لإيران الساحة الأعرض، وإن لم تكن الوحيدة، لممارسة النفوذ الذي بلغ حدّاً احتلاليّاً. لكنّ وصول هذا النفوذ إلى الحدود السوريّة – الإسرائيليّة شرع يهدّد دورها المستجدّ، ويعيد الاعتبار لبعض عناصر «اللعبة» كما كانت تُلعب إبّان الحرب الباردة. فسوريّة، وفق منطق النفوذ الدوليّ وتقاسمه، روسيّة مثلما كانت سوفياتيّة من قبل. وروسيا، تحت ضغط إسرائيل التي خيّرتْها بين صداقتها وصداقة إيران، ليست في حاجة إلى الشريك الإيرانيّ في دمشق. لقد مارست الصمت حيال الضربات الإسرائيلية المهينة للإيرانيّين، علماً أنّها سيّدة الأجواء السوريّة.
تطوّرات الأيّام القليلة الماضية، وآخرها زيارة ليبرمان، وزير الدفاع الإسرائيليّ، إلى موسكو، توحي أنّ هذه هي الوجهة: روسيا هي التي تعيد تتويج بشّار الأسد حاكماً على سوريّة، فيما يوضع إكليل غار على الرأس الإيرانيّ، من قبيل الشكر على دوره، وتُطلَب منه المغادرة. فلأنّ بقاء الإيرانيّين يعني الحرب مع إسرائيل، بالتالي تصدّع «الاستقرار» الروسيّ، بما فيه نظام الأسد، بات المطلوب أن يرحل الإيرانيّون. أمّا الرئيس الممانع الذي أنكر الوجود الإيرانيّ أصلاً في حديثه إلى الإعلام الروسيّ، فسيسمح له الإسرائيليّون بالسيطرة على حدوده الجنوبيّة، وتجديد ضبطها، بعد إحياء اتّفاق فصل القوّات في 1974.
الولايات المتّحدة وأوروبا لن تكونا بعيدتين من تسوية كبرى كهذه. الكثيرون في الشرق والغرب سيرحّبون بـ «وقف الحرب» و»توقّف النزوح»، وربّما «إعادة الإعمار». بوتين ونتانياهو سيظهران بمظهر من يصون نظام الدولة – الأمّة وما يلازمه من «استقرار» في الشرق الأوسط. انتخابات العراق الأخيرة قد تشكّل ركيزة صالحة أخرى في دفع إيران إلى داخل حدودها.
في هذا العرس، الذي يتكاثر من يتوقّعون حلوله قريباً، ستُمعن إيران وحدها في اللطم. إنّها لن تستطيع الوقوف في وجه إجماع دوليّ – إقليميّ بهذه الضخامة، لكنّها بالطبع لن تكون سعيدة بنتيجة تلغي كلّ ما بذلته هي وأتباعها، من دون أيّ تعويض مُعتَبَر. إنّها لن تستطيع أن تُقنع شعبها الذي يكتوي أصلاً بأزمته الاقتصاديّة. علاقات الأجنحة الحاكمة في طهران قد لا تصمد أمام تحوّل كهذا.
هذا سيناريو محتمل، وإن لم يكن حتميّاً بالضرورة. وهو، في مطلق الحالات، «لعبة أمم»، بمعنى أنّه عديم الصلة بطموحات الشعوب ورغباتها في الانعتاق والتحرّر، مع أنّ إخراج اللاعب الإيرانيّ من اللعبة يبقى خيراً من بقائه فيها، فضلاً عن تراجع حظوظ الحرب الإقليميّة، وتحديداً الإسرائيليّة - الإيرانيّة.
لكنّ لبنان قد يجد نفسه مُواجَهاً بسؤال كبير: ذاك أنّ عودة مقاتلي «حزب الله» من سوريّة قد تخلط أوراق البلد من جديد. آلاف العائدين بطاقة عنف عدوانيّة، مشوبة بالمرارة والإحباط، قد يطالبونه، سياسيّاً أو ماليّاً، بأكثر ممّا يستطيع أو يملك. قد يهزّون، مرّة أخرى، استقراره الهشّ وتوافقاته التي تحكمها المُياوَمة. ومن يدري، فقد يقرّرون مجدّداً «تحرير القدس» بالطريقة التي «حُرّرت» فيها ألف مرّة من قبل؟!