اكتشف اللبنانيون قبل أيام أنهم قبل أشهر كانوا على أبواب حرب أهلية. يعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأمر في معرض تذكيره بالنشاط الذي قام به من أجل حلّ الأزمة التي أعقبت استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في نوفمبر الماضي. يضيف ماكرون فخوراً بإنجازه أن الحريري كان محتجزاً في الرياض. ترد الأخيرة باقتضاب لافت “الأمر ليس صحيحا”.
هي زلة لسان غير موفقة لم تتعامل معها الرياض بغير ذلك. وبدا في حيثيات الأمر أن ماكرون، الذي يردّ على أسئلة محرجة عن خواء سياسته الخارجية، أراد البحث في الدفاتر المتوفرة عن إنجاز يُذكر فراح يفصّل بإفراط وصبيانية حكاية إنقاذ الحريري من “الحجز” وتخليص لبنان من “حرب أهلية”.
ولقصة أزمة استقالة الحريري مضامين وروايات قد لا تكون بعيدة عما أراد ماكرون الخروج به. لكن الرواية الرسمية التي قدمها ماكرون لا تليق في إيقاعاتها وقرقعاتها بالحصافة المطلوبة من رئيس دولة بحجم فرنسا. فإذا ما كان تداول الأمر إنجازا فرنسيا، فذلك أتى ضمن سياق أراده الخليجيون، والعرب عموما، تشجيعا وترحيبا بالمقاربة الحيوية التي يريدها رجل الإليزيه لبلاده في المنطقة.
وإذا كان يحسب لباريس دورها في وضع نهايات سعيدة لأزمة الاستقالة، فأن يتباهى ماكرون بخفة في ما يفترض أنه أوقف حرباً أهلية في لبنان، فذلك أن الرجل مرتبك الأداء محرج داخل بلده مما قالته الصحافية روث كرياف التي أجرت المقابلة معه من أن منابر العالم رحبت بظاهرة ماكرون، “فاستقبلوك واحتفوا بك لكنهم لا يصغون إليك”.
يسجل لماكرون طموحه الكبير في لعب دور دولي لفرنسا تراجع في العقود الأخيرة. ترجل ماكرون كما دونالد ترامب بلبس وسريالية داخل فضاءات السياسة في بلديهما. أربكا المتعارف عليه وأطاحا بثوابت النظامين السياسي وهيمنة الأحزاب العريقة. قلبا حسابات الجميع وتربعا على عرش الحكم، واحد في واشنطن وآخر في باريس.
يحمل ماكرون أفكارا مثيرة للجدل يريد أن يغير بها فرنسا والعالم. انطلق منذ الأيام الأولى لوصوله إلى الإليزيه نحو “عالم اليوم بقواعد هذا اليوم”، كما يقول. يضيف أن القواعد الدولية تصدعت “وعلينا أن نخترع قواعد جديدة”. يريد أن يعالج الاتحاد الأوروبي من أورام لم يكن البريكست البريطاني وحده مسؤولا عنها. يطمح لأوروبا أن تكون قوية في الاقتصاد والدفاع لتكون ندا لقوى كبرى منافسة، لا سيما الولايات المتحدة التي يقودها صديقه ترامب على سكة تبعدها عن مسار أطلسي قديم.
قبل أيام بدا الرئيس الفرنسي مزهوا سعيدا بالاحتفالية التي نظمها في باريس بشأن ليبيا. هي احتفالية حتى الآن. أربع شخصيات ليبية أساسية اتفقت دون توقيع أي وثيقة ملزمة على حل أساسه إجراء انتخابات. لا أحد من الليبيين صدّق هذا الاتفاق وهم الذين خبروا اتفاقات وتفاهمات حظيت برعاية دولية دون أن تؤدي إلى خروج هذا البلد من مأزقه الأليم. ولا أحد من الدول المعنية بالشأن الليبي أظهر ما يمكن اعتباره إيماناً بالحدث وإذعاناً لمفاعيله. وحده ماكرون أراد من هذا الحفل أن ينهي مأساة ارتكبتها باريس نفسها قبل سبع سنوات.
يتفاخر ماكرون بأن فرنسا وفق فلسفته في الدبلوماسية تريد أن تتحدث مع الجميع. يريد الرجل أن يقف بين واشنطن وطهران ويزعم أن مبادراته هي ما ينقذ الاتفاق النووي حتى الآن. يدافع عن الاتفاق النووي الإيراني بصفته ضامنا للسلام في الشرق الأوسط لما فيه “مصالح إسرائيل الإستراتيجية”. عين الرجل على السوق الإيرانية كما على أسواق الخليج. يدق باب الكرملين متحدثا عن فلاديمير بوتين، بنفس الحرارة التي يتحدث بها عن ترامب. الأمر يقوم على علاقات شخصية حميمة تتأسس على سياق تاريخي لفرنسا مع الولايات المتحدة وروسيا. يذكر بأن أميركا حليف تاريخي ويعيد اكتشاف أن روسيا دولة أوروبية. يغادر ماكرون واشنطن كما يغادر موسكو لكن لا يبدو أن أحدا يستمع إليه.
الكلام مع الجميع. هذا شعار ماكرون. تحدث مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن ذلك لم يمنع أنصار الأخير في فرنسا من ممارسة “بلطجة” استهدفت منافذ بيع لمجلة لوبوان التي أطل غلافها بصورة أردوغان واصفة إياه بالدكتاتور. قبل ذلك جرى حديث عن نشر قوات فرنسية في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا. أرسل وزير خارجيته قبل أشهر إلى طهران وعاد الرجل خائبا، فيما لا يبدو أن قادة طهران يعولون كثيرا على ماكرون وصحبه لإنقاذ الاتفاق النووي.
أدرك ماكرون قيمة اللحظة التاريخية التي يعيشها. بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي بما يجعل فرنسا قريبا آخر دولة في الاتحاد تمتلك حق النقض في مجلس الأمن. عرف أن ابتعاد لندن وتراجع وهج المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوفران له فرصة ليقود أوروبا وفق ما يراه لها. ومع ذلك لا يبدو أن المهمة سهلة ولا يبدو أن أوروبا تسير على هواه.
لا اتفاق نوويًّا مع إيران دون الولايات المتحدة، ولا دور لفرنسا في سوريا إلا في ما يسمح به الأميركيون، ولا نجاح لاحتفالية باريس الليبية دون رعاية واشنطن. هذه هي القواعد الدولية التي يستنتجها ماكرون ويسعى للمكابرة في تجاهلها. والمسألة ترتبط بإمكانيات لا تمتلكها باريس اقتصاديا ولا عسكريا، بما يطرح أسئلة أمام دول العالم أجمع حول المعطيات التي يعوّل عليها الرئيس الفرنسي لتمرير دبلوماسية مستقلة عن أجندات الكبار.
بعد عام على انتخابه يكتشف ماكرون بألم تعقد هذا العالم. يعيد اكتشاف ما اكتشفه رؤساء فرنسيون سابقون من محدودية الوزن الدولي لفرنسا. لن تتوقف ديناميات حركته، لكنها ستأخذ بعين الاعتبار مبادئ الممكن والمستحيل. سيأتي من يهمس في أذنه أن فرنسا تستطيع أن تلعب في ملاعب الكبار، لكنها لا تملك أن تلاعب الكبار. وسيأتي من يخبره أن حلّ أزمة استقالة الحريري قد قُدم له هدية، ولم يأت نتيجة مواهبه وما تملكه بلاده من إمكانيات ضغط.
هي “زلة لسان” احتاج إليها لرد الحملات الداخلية التي لا تحب إصلاحاته الداخلية الموجعة التي يقاومها الشارع الفرنسي، والتي لا تؤمن بسياسته الخارجية الطموحة التي لا تقوى باريس عليها. والأحرى أن يكون حديثه زلة لسان وإلا فأن يجاهر بروايته عن سابق تصور وتصميم مُعلنا عن احتجاز وحرب أهلية، فذلك يعني أن الرجل استنفد بضاعته وبات مرتبكا متصدع الأداء. تراقب عواصم الخليج أمر ذلك بقلق وخيبة أمل.
قد تكون في خيارات ماكرون حيال إيران والاتفاق النووي طموحات وأوهام، غير أن شركات فرنسية عملاقة مثل توتال وإنجي غادرت السوق الإيرانية، ذلك أنها تعمل في عوالم حقيقية تمقت ما هو متخيل يريد ماكرون إعادة اختراعه في عالم هذه الأيام.
لكن في الدفاع عن ماكرون يجب التذكير بأن شخصية تاريخية مثل الجنرال شارل ديغول انتهجت دبلوماسية لافتة لم ينصت لها العالم ولم تؤت ثمارها إلا بعد خمس أو ست سنوات. المسألة مسألة وقت، ولماكرون فترة سماح لن تطول.