أخلت السلطات القضائية اللبنانية سبيل الرئيسة السابقة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية المقدم سوزان الحاج إلى حين مثولها أمام المحكمة العسكرية وأبقت المقرصن إيلي غبش قيد التوقيف في إطار قضية الممثل المسرحي زياد عيتاني الذي مُنعت عنه المحاكمة بعد إلقاء القبض عليه في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وتلفيق تهمة العمالة لإسرائيل له.
أعاد الإفراج عن الحاج إحياء الملف الذي بدا منذ الأيام الأولى لتوقيف عيتاني لدى جهاز أمن الدولة، فقيراً إلى التماسك والدقة والإقناع. تراجع بعض من اتهموا زياد وساهموا في مفاقمة معاناته من أجل إثبات براءته، فيما لا يزال البعض الآخر يكيل له الشتائم والاتهامات على وسائل التواصل الاجتماعي ويرجع الإفراج عنه إلى أسباب سياسية تتعلق بالانتخابات التشريعية الأخيرة والحاجة إلى إرضاء الشارع البيروتي الذي ينتمي عيتاني إليه.
تعجّ القضية بالتناقضات والثغرات التي يسع الجِمال أن تمرّ عبرها. من «ركّب» الملف لزياد عديم الخيال والمهارة وقبلهما الأخلاق، لا شك في ذلك. وواضح أنه أستند إلى شبكة علاقات داخلية لتوريط الممثل في قضية تجسس وتجنيد مؤيدين للتطبيع مع إسرائيل ومراقبة شخصيات سياسية. بيد أن هذا كله شأن ثانوي أمام اندراج هذه الفضيحة الأمنية في المناخ العام السائد في لبنان، وهو المناخ الذي سارع ممثلوه إلى تحطيم زياد عيتاني عند اعتقاله تماماً كما سارعوا إلى حمله على الأكتاف عند الإفراج عنه.
سيخوض زياد معركة عسيرة وشرسة لمحو الآثار التي رتبها الافتراء عليه. هذا حقه بل واجبه أيضاً حتى لا يستسهل موظفون رسميون وإعلاميون في مرات مقبلة التجني على أبرياء وشنّ حملات ضارية بقدر ما هي سفيهة، بحق أشخاص لم يمثلوا بعد أمام القضاء ولم تسمع أقوالهم. لكن هذه المعركة الفردية تحتاج إلى جهود جبارة لتحويلها إلى جرس إنذار في وجه انحسار العقلانية عن النظام السياسي اللبناني برمته والذي تمثّل قدرة ضباط في أجهزته الأمنية على فبركة ملفات واختلاق تُهم، رأس جبل الجليد.
إذا حولنا نظرنا إلى المزايدات في شأن تأليف الحكومة المقبلة وقبلها إلى مجريات الانتخابات النيابية وإلى الأحداث التي أعقبتها (تظاهرات الدراجات النارية الاستفزازية ومقتل شاب برصاص مؤيدي مرشح منافس في الشويفات) والأهم الأسلوب الذي دفعت فيه هذه القضايا إلى زوايا التجاهل واعتبارها من طبائع الأمور، نجد أن اتهام زياد عيتاني بالتجسس ثم تبرئته وإخلاء سبيل الحاج، يتلاءمان للغاية مع ألوان هذه اللوحة.
فالمطلوب من المواطن اللبناني أن يكون سريع النسيان للتناقضات في المواقف والآراء، وأن يغفل تسلسل مواقف السياسيين وأن يقنع بتبريراتهم الهزيلة والضحلة من دون التساؤل عن الخلفيات والدوافع لتشريق وتغريب في التحالفات وصعود وهبوط نبرات التهديدات والشتائم المتبادلة بحجة أن هذه هي السياسة في بلدنا. والحال أن هذه الظواهر لا تمت إلى السياسة بشيء بل إلى نوع من بهلوانيات جوقة من العاجزين عن تمثيل مصالح جمهورهم خارج إطار التلاعب بالأهواء والمشاعر الطائفية والجهوية.
ويجب على اللبنانيين أن يقبلوا الواقع من دون أن يفهموه وأن يدفعوا ثمن الفساد من دون الحق في المساءلة وأن يهللوا لخروج زياد عيتاني من السجن وأن يحيّوا المقدم سوزان الحاج عند عودتها إلى منزلها. أما الأسئلة البسيطة بساطة البداهة من مثل العلة الكامنة وراء استمرار هذه الحالة من العدمية السياسية وما تجلبه من دمار على الأجيال المقبلة، فلا داعي له. من نحن لنسأل أصلاً؟