ولكن من حقّ ناخبي ومؤيّدي تياره أن يعرفوا حيثيّات هذا الرقم. وهل يُفترض التعاملُ مع الانتصار بكليّته، أي كربح نظيف ظهّر تقدّمَ «التيار»، أو لا بدّ من التدقيق في ثناياه وخفاياه وتفنيد عوامله المنتجة، وما إذا كان «التيار» تقدّم نتيجة النظام النسبي بينما هو فعلياً قد تراجع شعبياً؟
الأكيد طبعاً، أنّ بعضَ المقاعد المكتسبة في هذا الاستحقاق كانت بفعل النظام النسبي الذي أعطى ما لـ»التيار»، لـ»التيار»، وهي حقوق كان النظام الأكثري «أكلها» عليه، بمعنى أنّ كثيراً من المقاعد الجديدة المُحصّلة أتت من دوائر انتخابية كانت تظلم هذا الفريق كونها مركّبة طائفياً تجعل من الناخبين المسيحيين أقلّية ضمن أكثريات طاغية من لون ثانٍ.
والأكيد أيضاً أنّ قيادة «التيار» أجادت في استخدام أقصى البراغماتية الانتخابية من خلال نسج كل التحالفات الممكنة التي تساعد على رفع الحاصل الانتخابي حتى لو كان الثمن الخروج بخريطة تحالفات متناقضة شوّهت الخطابَ السياسي الذي صار لكل مقام مقال.
ولكنّ الغوص بدقّة في تفاصيل الأرقام التي خرج بها «التيار» من خلال قياس حجم حضوره على البقعة المسيحية ومقارنته بحضوره في البقعة ذاتها كما بيّنتها نتائج دورة 2009، يُظهر بوضوح مدى تراجع الحزب شعبياً في بيئته المسيحية.
وفق دراسة أعدّها الخبير الانتخابي كمال فغالي تتضمّن جدولَ مقارنة في أربع دوائر أساسية تُعتبر معقلَ «التيار»، يتبيّن الآتي:
في دائرة المتن الشمالي، نال «التيار الوطني الحر» في الدورة الماضية ما نسبته 44,3% من أصوات المقترعين الموارنة، فيما حقّق بالأمس ما نسبته %23,7 والحزب السوري القومي الاجتماعي %3,1، ما يعني تحصيلهما سوياً ما نسبته 26,8% من المقترعين الموارنة.
أما عند الأرثوذكس، فقد سجّل في العام 2009، ما نسبته 44,9% من المقترعين، أما بالأمس فقد نال «التيار» %26,5 والحزب القومي %3,4 ما يعني 29,9% كمجموع للإثنين.
أما عند الكاثوليك، قد اقترع 45,8% من أبناء هذه الطائفة لصالح «التيار» في العام 2009، أما اليوم فحجز «التيار» %31,8 منهم والحزب القومي %7,6 ليكون الحاصل %39,4.
في دائرة كسروان التي اجتاح «التيار» مقاعدَها الخمسة في العام 2009 محققاً نسبة 51,1% من أصوات المقترعين الموارنة، لم يتخطّ بالأمس نسبة 23,1% من الموارنة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ المقصود بـ»التيار» هما شامل روكز وروجيه عازار ما يعني عدم احتساب التسرّب في الأصوات البرتقالية التي استقطبها شركاء اللائحة.
أما دائرة جبيل فتكاد تكون أقلّ الدوائر الأربعة تعرّضاً للقضم، حيث نال «التيار» في الاستحقاق الماضي ما نسبته 48,7% من أصوات الموارنة فيما سجّل بالأمس ما نسبته 42,1%.
وبالانتقال إلى دائرة بعبدا يتبيّن أنّه في العام 2009 استقطب «التيار» ما نسبته 49.7% من إجمالي المسيحيين، بينهم 49% من أصوات الموارنة و59,8% من أصوات الأرثوذكس و40,7% من الكاثوليك، لكنه لم يتخطّ بالأمس نسبة الـ42,1% من المقترعين الموارنة و43,6% من الأرثوذكس.
وبناءً على هذه الأرقام يمكن الاستنتاج أنه لو خاض «التيار» الانتخابات يوم السادس من أيار الماضي وفق النظام الأكثري، لكانت النتائج مخيّبة للآمال وبيّنت حجمَ التراجع، كما لو أنّ الأرقام أعلاه التي تبيّن حضور «التيار» في البيئة المسيحية أُسقطت على النظام الأكثري وفق تقسيمات 2009، لثبت التراجع بالوجه العلمي!
أما الأسباب فمتعددة ومتداخلة. منها ما له علاقة بالتنظيم، ومنها مرتبط بشعارات المعركة، ومنها متصل بالسياسة.
يقول أحد العونيين إنّ معاركَ الصوت التفضيلي كان لها الأثر المباشر على تدنّي نسبة التصويت المؤيّد لـ»التيار». فبعض الناخبين صوّت لمصلحة مرشحين من لوائح منافسة بعدما حُصرت خياراتُهم بصوت تفضيلي واحد، فغلّبوا منطق المصالح المباشرة والخدمات كما حصل مثلاً في كسروان حيث استقطب فريد الخازن عدداً لا بأس به من الأصوات العونية، مثله مثل زياد حواط في جبيل.
كما أنّ اختيارات الترشيحات العونية فعلت فعلها وساهمت في بعض الدوائر في انكفاء الأصوات المؤيّدة وجلوسها في البيت بسب الاعتراض على الترشيحات، مع أنّها من النواة الصلبة للتنظيم، فيما اختار البعض الآخر الحياد لعدم إحراجه بين ترشيحات صديقة خصوصاً وأنه من أصحاب السوابق في تركيب لوائحه الخاصة وهي ميزة إستثنائية أفقده إياها النظامُ النسبي.
الى جانب ذلك، يعترف العوني ذاته بأنّ الماكينة الانتخايبة قصّرت بعض الشيء مقارنةً بماكينة «القوات» التي تمكّنت في معظم البلدات التي نشطت فيها من «دوبلة» سكورها، وقد ساعدها تركيزُها على مرشح واحد في كل دائرة، في حين أنّ جهود الماكينة البرتقالية تشتّتت بين أكثر من مرشح، وفي كثير من المطارح وقعت صدامات بين طاقم الماكينة المحلّية بسبب نزاعات مرشحي «التيار» في ما بينهم في سباقهم على الأصوات التفضيلية.
بنظر أحد المعارضين، المسألة تتعدّى القواعد الجديدة التي فرضتها الحروب على الأصوات التفضيلية، الى حال الوهن التي تصيب التنظيم منذ مدّة والتي حالت دون تماسكه في مواجهة الاستحقاق، وقد انعكست حالَ تراخٍ على مستوى القواعد والكوادر. كما أنّ إهمالَ بعض النواب في متابعة شؤون ناخبين زاد من إرباك هذه القواعد وحملها الى أحضان مرشحين منافسين اجتهدوا في الوقوف الى جانب ناسهم.
ولا يتردّد في التأكيد أنّ تحالفات «التيار» الجامعة بين الأبيض والأسود لم ترحم جمهورَه من الضياع وإبقائهم في المنازل خصوصاً وأنّ هذا الجمهور مسيّس، وعادة ما كان يحمله الى صناديق الاقتراع هو خطاب الجنرال ميشال عون، وإذ به يُصاب بالصداع جراء التحالف مع تيار «المستقبل» في دائرة ومخاصمته في دائرة أخرى، وبين الإلتقاء مع الرئيس نبيه بري في دائرة ومهاجمته في دائرة أخرى...
كل هذه الصورة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ لوائح «التيار الوطني الحر» خاضت مواجهاتها باسم العهد و«عدّته»!