إتهام الرياض بإحتجاز الحريري: مناكفةُ فرنسية فاشلة في لحظة الإشتباك الإيراني الأميركي
 
لماذا إختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا التوقيت الدولي والإقليمي ليطلق قنبلته الدخانية حول مرحلة إستقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض ليعيد طرح روايةٍ مثيرة للجدل والفتنة الداخلية بمفعولٍ رجعي، وبعد أن أصبحت هذه القضية وراء اللبنانيين في السياسة ووراء الرئيس الحريري على المستوى الشخصي..؟!
هل جاء كلام ماكرون من باب التفاخر له ولبلده عندما نسب الفضل لنفسه في حل أزمة إستقالة الحريري، موجهاً الإتهام إلى المملكلة العربية السعودية بإحتجاز رئيس حكومة لبنان، أم أن للموقف الفرنسي أبعاداً سياسية من حيث التوقيت أو الإستخدام في حمأة التحولات الجارية ربطاً بالملف النووي الإيراني وبدء تحجيم وجود ميليشيات طهران في سوريا؟
 
ماذ قال ماكرون؟
 
قال ماكرون في مقابلة مع تلفزيون (بي.إف.إم) "لو لم يتم الأخذ برأي فرنسا حينئذ لكان لبنان يخوض على الأرجح حربا ونحن نتحدث الآن. (الفضل) للدبلوماسية الفرنسية وللإجراء الذي اتخذناه". وأردف ماكرون "أذكرك باحتجاز رئيس وزراء في السعودية لعدة أسابيع". 
وأضاف ماكرون إن توقفه في الرياض، دون ترتيب مسبق أثناء رحلة جوية، لإقناع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بذلك وما أعقبه من توجيهه دعوة إلى الحريري لزيارة فرنسا، كان السبب في إنهاء الأزمة.
 
الرد السعودي
 
صرح مصدر مسؤول في وزارة الخارجية بأن ما ذكره الرئيس الفرنسي في لقائه مع قناة "بي إف إم التلفزيونية" أن المملكة احتجزت دولة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري هو كلام غير صحيح.
وذكر المصدر، بأن "المملكة العربية السعودية كانت ولا تزال تدعم استقرار وأمن لبنان وتدعم دولة الرئيس الحريري بكافة الوسائل"، مضيفاً أن "كافة الشواهد تؤكد أن من يجرّ لبنان والمنطقة إلى عدم الاستقرار هو إيران وأدواتها مثل ميليشيا "حزب الله" الإرهابي المتورط في اغتيال دولة رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري وقتل مواطنين فرنسيين في لبنان، إضافة إلى مد إيران للميليشيات الإرهابية بما فيها ميليشيات الحوثي بالأسلحة والصواريخ الباليستية التي تستخدمها ضد المدن السعودية".
وختم المصدر المسؤول تصريحه بأن "المملكة تتطلع للعمل مع الرئيس الفرنسي ماكرون لمواجهة قوى الفوضى والدمار في المنطقة وعلى رأسها إيران وأدواتها".
 
 
رؤية في أفق السياسة الفرنسية 
 
تعتبر فرنسا الأم (غير الرسمية) للثورة الإيرانية ، فهي التي إحتضنت الإمام الخميني على مدى سنوات، وساهمت في إنجاح ثورته عبر تسهيل مخابراتها لإنتشار أفكاره عبر ظاهرة "الكاسيت" وأبقت على قنواتها مع الحكم الجديد، لاعبة دور الوسيط بينه وبين الولايات المتحدة في مختلف مراحل الصراع قبل وبعد الإتفاق النووي.
 
هذا المسار إنعكس على توجهات فرنسا في لبنان، حيث فصَلَت بين الجناح العسكري والسياسي لـ"حزب الله" الذراع الإيراني المتهم أميركياً وخليجياً بالإرهاب ، ففتحت السلطات الفرنسية قناة تواصلٍ سياسية مع الحزب بحجة أنه لم ينفذ عملياتٍ في الخارج، وفي الأراضي الفرنسية تحديداً، وبإعتباره وجوده أمراً واقعاً في الداخل اللبناني وفي الخارج، وتحديداً في إفريقيا، حيث تتلاقى مصالح باريس والحزب مع وجود جالية شيعية كبيرة منتشرة في دول القارة السمراء.. وصولاً إلى إقامة تنسيق أمني بين الفرنسيين و"حزب الله" تحت شعار مكافحة الإرهاب.
 
في المقابل، يرحب "حزب الله" بالموقف الفرنسي لأنه يعطيه شيئاً من الإعتراف بشرعيته على المستوى الدولي، ولأنه يمكنه من فتح قناة تفاوض مع واشنطن بدل التعاطي المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية.
 
 
التوقيت الإقليمي والمحلي للموقف الفرنسي
 
جاء كلام ماكرون في توقيتٍ إقليمي حساس، في ظلّ إندلاع نُذُر المواجهة بين الإدارة الأميركية المنسحبة من الإتفاق النووي الإيراني وبين طهران ومن ورائها الإتحاد الأوروبي وعلى رأسه فرنسا، في وقتٍ تتخذ فيه المملكة العربية السعودية موقف القوة العربية والإسلامية الوازنة الداعمة لوضع حدٍ لسياسات إيران التخريبية في العالم العربي، وتخوض حرباً مباشرة مع الإرهاب الحوثي في اليمن وتضع ميليشيات إيران في مرحلة الإنهيار ما قبل الإستسلام للدولة والشرعية اليمينية.
 
أما محلياً ، فإن طرح الرواية الفرنسية مثـّل إنحيازاً لرواية فريق "حزب الله" والرئيس عون الذي يزعم أن الرئيس الحريري تعرّض للإحتجاز، ويتهم السعودية بأنها كانت تريد إشعال حربٍ في لبنان، وهو ما تطابق مع كلام الرئيس الفرنسي، على أبواب تشكيل حكومةٍ يستعجل الحزب تشكيلها لتحويلها إلى غطاء له في مواجهة موجة العقوبات الجديدة.
 
 
 
 
كلام تجاوزته الأحداث والوقائع
 
في المقابل ، يرفض الرئيس الحريري الحديث عن تعرضه للإحتجاز في المملكة، وهو يخوض اليوم تجربة إستعادة العلاقات بين الرياض وبيروت التي خربتها بشكلٍ فعلي ممارسات "حزب الله" العدائية للمملكة وإستهدافه لأمنها عبر سعيه لإختراق الداخل السعودي ودعمه لميليشيا الحوثي في اليمن، وتحريكه للإضطرابات في البحرين ، محولاً الضاحية الجنوبية إلى موئل لكل أعداء السعودية.
وقد سجلت الدبلوماسية السعودية حضورها الوازن الذي لا يستطيع "حزب الله" وداعموه الحدّ منه ، فزار الموفد السعودي نزار العلولا وشارك الرئيس عون في القمة العربية بالرياض، وقام الوزير البخاري متعاوناً مع سفير دولة الإمارات العربية حمد الشامسي، بزيارة مختلف المناطق وإلتقى معظم القيادات اللبنانية ، مقدّماً نموذجاً حيوياً نادراً في الأداء الدبلوماسي المنفتح والقادر على نسج أفضل العلاقات مع المرجعيات السياسية والدينية والإقتصادية.
 
 
الإنعكاس المحلي لكلام ماكرون
 
سارع إعلام "حزب الله" إلى تلقـّف الموقف الفرنسي، لتقوم قناة "الجديد" بإعداد تقرير زعمت فيه أن ترجمة الكلام الفرنسي هو أن السعودية كانت تحضر لإشعال حربٍ في لبنان، وأنها طلبت من الرئيس الفلسطيني محمود عباس تحريك المخيمات الفلسطينية وأن الوزير أشرف ريفي حاول الدخول إلى مخيم عين الحلوة لتحريكه لكن قيادة الجيش منعته من هذه الخطوة ، في رواية ركيكة متهالكة لا قيمة لها في السياسة والأمن.
 
 
ثغرات الموقف الفرنسي
 
في الردّ على هذه المزاعم يمكن وضع النقاط الآتية:
 
ــ كذبة التهويل بالحرب:
إن التهويل بإشعال الحرب هو كذبة مفضوحة، أولاً لأن السعودية بذلت قصارى جهدها لضمان الأمن والإستقرار في لبنان ، وأن السوابق في التخريب يمتلكها "حزب الله" الذي قام يعمليات تفجير للجنود الفرنسيين في الثمانينات والمتهم بإغتيال الشهيد رفيق الحريري والمشتبه به بسلسلة الإغتيالات ، وهو الذي قام بإنقلاب 7 أيار 2008 وحوّل لبنان منصةً للإرهاب الإقليمي، بينما كان الدور السعودي دائماً حريصاً على الكيان والدولة والمؤسسات ، مقدماً الدعم المالي والسياسي للبنان على جميع المستويات.
في المقابل ، ليس هناك أي طرفٍ لبناني يريد الحرب ، بل إن فريق 14 آذار مجتمعاً ومنفرداً ، يتمسك بالدولة ومؤسساتها الأمنية رغم هيمنة "حزب الله" على الكثير من مفاصلها.
 
ــ ورقة المخيمات: وهمٌ غير قابل للتصديق
 
أما الوجه الآخر لكذبة الحرب في لبنان ، فهي أن هناك طرفاً واحداً قادراً على شنّ الحرب ، وهو "حزب الله" . أما ورقة المخيمات الفلسطينية ، فهي ورقة ساقطة لأسباب كثيرة أهمها: أن الفلسطينيين ليسوا طرفاً في الصراع الداخلي ولأن المخيمات لا تمتلك القدرة على إشعال المواجهات ، فضلاً عن أن أي إخلال بالأمن سيواجه بإجماعٍ لبناني على رفضه كما حصل مع تنظيم "فتح الإسلام" في مخيم نهر البارد.
 
ليس للسعودية مشروعٌ أمنيّ غير دعم الشرعية
 
لكن الأهم في هذا كلّه أن السعودية لم يكن لها مشروعٌ أمنيٌ خاص في لبنان ، بل كان دأب قيادة المملكة دعم الجيش والقوى الأمنية الشرعية ، والكلّ يذكر كيف شنّ "حزب الله" حملة عنيفة ضد الرياض توازت مع توجيه إهانات للمؤسسة العسكرية وتوصيفها بالعجز والضعف، وإحتلال مكان الجيش في المهمات الإستراتجية، مما أدى إلى وقف المكرمة السعودية للجيش اللبناني.
لم يكن للوزير تامر السبهان مشروعٌ أمني ولا فريق ميداني في لبنان ، ولم يستقطب السفير المفوض وليد البخاري مجموعاتٍ مسلحة تنشر التخريب في المناطق اللبناني كما يفعل "حزب الله" عبر سرايا زعرانه التي تعتبر قنابل موقوتة يفجرها عندما يريد توتير الأوضاع في البلد.
 
سقطةٌ فرنسية ، فهل تـُصحّح؟
 
أعاد كلام الرئيس الفرنسي إحياء جدلٍ مات ولم يعد يجد من يروّجه إلا آلة "حزب الله" الإعلامية ، وإذا كان ماكرون يقصد تثبيت موقع لفرنسا في السياسة الإقليمية والدولية ، فإن باب المناكفات مع المملكة العربية السعودية لا يصنع مجداً ، وإذا كان يقصد تغليب كفة "حزب الله" في مرحلة تشكيل الحكومة بمواجهة الضغوط التي يتعرّض لها ، فإنه ودولته سيكونان أول النادمين ، لأن نظام الولي الفقيه يلتفّ على الغرب ويمارس الإرهاب بإطلاق شبكات داعش والقاعدة ، ثم يقبض من عواصم العالم ثمن لجمها ، كما هو حال نظام بشار الأسد ، ولم يغب عن الذاكرة بعد مشهد الترفيه لمقاتلي داعش والنصرة الخارجين بباصات مدارس المهدي (التابعة لـ"حزب الله") من جرود عرسال والقاع.
 
من الواضح أن السياسة السعودية بدأت تحصد نتائج جهودها الدبلوماسية والعسكرية ، وبدأ المشهد يتغير من العراق بإنتخاباته الرافضة للهيمنة الإيرانية ومن اليمن الذي سيسعد قريباً بتطهيره من ميليشيات الحوثي الإيرانية ، وفي سوريا حيث بدأت ملامح الخروج الفارسي من الشام.
في النهاية ، لن يخرج الفرنسيون عن الطوق الأميركي ، وسينضمون مع بقية الدول الأوروبية إلى حملة مواجهة أذرع إيران في المنطقة ، وربما نسمع الرئيس ماكرون خلال الأيام المقبلة يصدر تفسيراً مختلفاً لكلامه عن حقيقة ما حصل مع الرئيس الحريري في الرياض.