ماذا ينتظر العراقيون من شجرة الاحتلال؟ أن تطرح أصناف الفواكه مثلاً، كالديمقراطية والحريات والإعمار والتنمية والنهوض العلمي والثقافي ومفاهيم السعادة والرفاهية.
أميركا دولة أقدمت على احتلال العراق بعد حصار مروع بالعقوبات دام 13 سنة ومراوغات في التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، بما في تلك الفترة من تغلغل لأنشطة ميليشيات إيران الطائفية بازدياد ملحوظ في نشاطها بعد مؤتمرات ما يسمّى بالمعارضة المدعومة من الولايات المتحدة، وبداية غزو الأرض الأفغانية إثر الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001.
ميزانيات ضخمة أنفقتها إدارة جورج بوش الابن، لا علاقة لها حتماً بإنقاذ شعب العراق من نظامه الحاكم، أو إنقاذ المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. كان يقف خلف تلك الحرب قرار استراتيجي قديم لإنجاز مهمة تخفيض ارتفاع موجة المد المعنوي لشعب العراق وما يمكن أن تستلهمه الشعوب العربية بقادتها من معانٍ شبه غائبة عن مناخهم السياسي العام حينذاك بعدما تحقق من انتصار في إنهاء الحرب مع إيران وتحجيم طموحاتها في احتلال العراق بصادرات فتنتها المذهبية.
الولايات المتحدة الأميركية بعد حرب الثماني سنوات منحت إيران دون تأخير قبلة إنعاش، عندما فرضت حظراً على تصدير شحنات القمح إلى العراق ثم المداخلات المعروفة إلى يوم الاحتلال في أبريل 2003. رسائل بين أميركا والنظام الإيراني لم تنقطع، والتبادل السري عبر وسطاء ولوبيات وشخصيات أعطى ثماره في تحقيق غايات مشتركة بدت صريحة في عدم ردع تمادي الميليشيات الإيرانية على المصالح الأميركية التي وصلت حد الاختطاف وتبادل ردود الفعل بمساومات ومفاوضات استخبارية كانت حلقات وصل لتفاهمات على الساحة العراقية، أو في العلاقة بين البلدين في قضايا تجاوزت الحدود البرية أو البحرية في سلسلة أحداث انتهت بحلول ودية.
انتهى الأمر إلى تسليم شجرة الاحتلال الأميركي إلى عملاء النظام الإيراني من ميليشيات وأحزاب طائفية، لذلك فإن مساعي حكومة نوري المالكي لتوقيع ما عرف باتفاقية الإطار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق كانت تهدف إلى تخفيف التواجد العسكري تحت حجة تحرير العراق من تبعات الاحتلال الأميركي.
بينما كان الهدف أن تنتقل إيران بكامل عدتها العقائدية والسياسية إلى الاستفراد بالواقع العراقي دون أي مزاحمة من الدولة العظمى في العالم، التي تتعثر الآن في خطواتها لإيجاد موطئ قدم مؤثر بالعملية السياسية يجتهد في أن يقترب ويعادل كفة الضغوط المقابلة للحضور الإيراني في انتخابات العراق النيابية، حيث تتصدر نشاطات قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري ولقاءات السفير الإيراني في بغداد، أيرج مسجدي، مشهد تقريب وجهات النظر بين فرقاء الكتلة الإيرانية وكذلك بلورة واقع انتخابي أكثر استجابة لمتطلبات مشروع ولاية الفقيه من النتائج الانتخابية.
رغم الـ12 فقرة من عمود الاستراتيجية الأميركية ضد النظام الإيراني في إعلان وزير الخارجية مارك بومبيو، إلا أن الساحة السياسية في العراق تظل هي الفيصل في تقرير ما إذا كانت أميركا جادة في تقطيع أوصال الأذرع الإيرانية. فالعراق أو بغداد تحديداً هي قلب المشروع التوسعي وعاصمة الحلم الإمبراطوري القومي المذهبي للنظام الإيراني.
الميليشيات بعويلها الوطني على العراق وشعبه بما فيها أطروحاتها حول الكتلة العابرة للمحاصصة والطائفية، لن تكون إلا بعض ثمار الشوك في عملية التواطؤ بين الاحتلالين الأميركي والإيراني؛ لذلك فإن إدارة الرئيس دونالد ترامب بتبنيها الانسحاب من الاتفاق النووي الأوبامي عليها أن تعيد النظر في الاحتلال الأميركي للعراق، ومعالجة تداعياته السياسية وجدواه بما فيها الخسائر الاقتصادية التي ينبغي أن تجد لها تفسيراً آخر يتلخص بتسليم إيران دولة غنية مثل العراق بثرواتها، وما يمكن أن تهبه من مصادر اقتصادية للإفلات من العقوبات وذلك حاصل بتسخير البنوك لتمويل الإرهاب وترويج الخدمات المصرفية خارج فضاء النظام العالمي.
العراق لن يفلت من النظام الطائفي والمحاصصة والفساد المالي والانتخابي، فالسطوة الإيرانية تتفوق بحكم أدواتها وتجاربها في العراق على اللمسات الأميركية ومدى تأثيرها على مشاورات تشكيل الحكومة القادمة، فالتجاذبات داخل القوائم الكردية تميل إلى إيران بواقع العلاقة بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ومنتجات أحداث كركوك بعد الاستفتاء، وكذلك العلاقة المترددة والقلقة للحزب الديمقراطي الكردستاني مع أميركا بعد تخلي الأخيرة عنهم أثناء الأزمة لعدم انصياعهم إلى نصائح القيادة الأميركية في تأجيل الاستفتاء.
ما ورد في توجيهات رئيس تحالف “سائرون” إلى أتباعه بعدم القيام بأي رد فعل أو نشاط أو تظاهرة دعم أو الاستنفار لأنصاره تأييداً أو شجباً لبعض المواقف، ليس إلا دلالة صريحة لضغوط إيرانية بعدم التفريط في التحالف الطائفي للكتلة الأكبر، وهذا التفريط لن تسمح به إيران في العملية السياسية، مهما بدت معالم التغيير في الوجوه والتحالفات والبرامج، لتنافيه مع خط سير المشروع الإيراني، وبالذات في مرحلة تبدو حاسمة من تاريخ النظام الذي سيدخل سنته الأربعين من عمره الحافل بالإرهاب والعمل الباطني على امتداد العالم.
الانتخابات ومخلفاتها الخطيرة بالتزوير والوعيد والتهديد والتحذيرات المبكرة بالحرب الأهلية، هي صورة هلوسة متقدمة ستجري وقائعها على الأرض الإيرانية بعد سريان العقوبات الاقتصادية واستمرار هذيان النظام وحرسه الثوري وقادته وملاليه وأذنابه على أمل إبقاء الاتفاق النووي مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين بنظام المقايضة في السلع والمشاريع بصادرات النفط.
لكن ماذا عن الثورات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة في المدن الإيرانية؟ ثمة باب مفتوح لقيادة تلك الاحتجاجات وتنظيم تحركاتها لاستيعاب مراحل الصراع المقبلة ونتائجه في إيران وعلى نطاق تمدد الميليشيات.
من وقائع 15 سنة من احتلال العراق أن أي طائفي لا يمكن الاعتماد عليه حتى في وظيفة متواضعة، فكيف بهؤلاء الطائفيين الذين تسلموا مقادير السلطة في العراق وتحكموا في رقاب المدن والناس وكان ما كان؟ إذ كيف يتم تسليم وحدات قتالية إلى ميليشيات؟ وكيف يتم تسليم مقاتلة إلى طيار طائفي كالذي كان يتحدث بفخر عن تفريغ حمولته من العتاد فوق بيوت المدنيين في مدينة يعتبرها من نسيج مذهبي يستحق أحكام الإعدام؟ وهو ما حصل على نطاق واسع تحت مختلف الصنوف والذرائع.
الانتخابات البرلمانية ونتائجها ستجر الويلات على العراق لأنها متوالية طعن في المستقبل، وليست مجرد طعون في النزاهة والمفوضية، والقيادات الطائفية بتحولاتها وتشوه تاريخ شخصياتها لعبت أدوارا ملتوية في جلد ظهور الناس بالمعتقدات والطقوس واللطم متناسية أن انعدام الكهرباء وقلة المياه وانعدام الأمن الغذائي خطايا كبرى تحاسب عليها القوانين الوضعية والشرائع السماوية.
هل اكتفى شعب العراق من البكاء؟ هل قاتل بما فيه الكفاية لسبب أو لآخر؟ هل حان له أن يعمل ويثق فقط بالحقائق، فما معنى احترام السلطة مع وجود قادة أحزاب وقادة دولة يؤدون دور المشعوذين لبث التفرقة والمهانة والتجويع وحتى هتك الأعراض، فالتغيير في العراق لن يكون واقعا إلا بالاصطدام بين الجلاد وضحيته.