لن تكون الأزمات السياسية والمخاطر الأمنية التي يحاول لبنان تجنّبها، أقل وطأة من التحديات الاقتصادية التي يواجهها بلد صغير مثل لبنان، يرزح تحت عبء دين تجاوز عتبة 82 مليار دولار، ويعاني ركوداً اقتصادياً كبيراً وتراجعاً في النمو، وواقعاً مالياً صعباً للغاية، تزيد من تفاقمه أزمة اللجوء السوري الآخذة في التصاعد، بفعل تراجع المساعدات الدولية، وانسداد الأفق أمام عودة قريبة لهؤلاء اللاجئين إلى بلادهم بسبب الأوضاع الأمنية والمخاطر التي تتهدد حياتهم في حال عودتهم إلى مناطق سيطرة النظام.
وتطول قائمة الملفات الاقتصادية التي تتطلب معالجات سريعة، ويفترض أن تضعها الحكومة الجديدة أولوية في برنامجها الاقتصادي، لكنّ نجاحها في تطبيق الإصلاحات رهن بقبول الأطراف السياسية بقرارات مؤلمة تتعلّق بمكافحة الفساد ووقف الهدر وخفض الإنفاق، ويبدو أن الجميع مدرك لخطورة الأوضاع وأهمية الإسراع في المعالجة، حيث عدّ نديم الملا، المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، أن «مسؤولية مواجهة التحديات الاقتصادية، ليست مهمّة الرئيس الحريري وحده، إنما تشكّل اختبارا لجميع الأطراف السياسية المتفقة على دقّة الوضع الاقتصادي، وهي تدرك أن الخروج من الواقع الخطير بات أولوية ملحّة».
وشدد الملا في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، على أن «التحديات الملقاة على عاتق الحكومة كبيرة، لكن أبرزها يكمن في الركائر التي وضعت في مؤتمر (سيدر) لدعم لبنان الذي انعقد في باريس خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي، ضمن برنامج الاستثمار الوطني لتأهيل البنى التحتية خلال السنوات الخمس المقبلة»، لافتاً إلى أن «الخطوة الأولى تبدأ في تخفيض العجز في الميزانية العامة بمعدل 5 في المائة مقابل الناتج المحلي، وإصلاح القطاعات الاقتصادية والمالية، واستقطاب الاستثمارات إلى لبنان»، عادّاً أن الحكومة «ستعكف على الدفع باتجاه تنوّع الدخل القومي وتنوّع القطاعات المنتجة».
وتتقاطع آراء المتابعين للملفات الاقتصادية، عند أولوية معالجة عجز ميزانية الدولة والملاءمة بين الواردات والنفقات، ورأى الخبير الاقتصادي والمالي غازي وزنة، أن أهم التحديات التي تواجه حكومة الحريري الثالثة «تكمن في معالجة وضع المالية العامة، لأن العجز حالياً يقارب 10 في المائة من الناتج المحلي، وأهم شرط وضع على لبنان في مؤتمر (سيدر) هو الإصلاح في المالية لعامة». وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أن «الامتحان الأول للحكومة يتمثّل في إصلاح قطاع الكهرباء الذي يقارب عجزه في عام 2018 ملياري دولار، على أساس أن سعر برميل النفط كان بحدود 60 دولاراً، لكن مع ارتفاع سعر النفط إلى 80 دولاراً للبرميل قدر يرتفع عجز الكهرباء هذا العام إلى 2.5 مليار دولار»، لافتاً إلى أن «تعزيز النمو الاقتصادي في لبنان مسألة ملحة، لأن النمو الآن أقل من 1.5 في المائة، وبالتالي يجب الاعتماد على مشروعات البنى التحتية».
ويعاني لبنان تراجعاً كبيراً في النمو منذ عام 2011، بفعل الأزمة السياسية التي نشأت عن الإطاحة بحكومة سعد الحريري الأولى، وأدت إلى تراجع كبير في نسبة الاستثمارات الخارجية والداخلية، وازداد الأمر سوءاً مع بدء أزمة اللجوء السوري ولجوء نحو 1.5 مليون سوري إلى لبنان، هرباً من الحرب والدمار اللاحق ببلدهم، غير ذلك لا يعفي حكومة الائتلاف الوطني المزمع تشكيها من وقف التدهور، وملاقاة مقررات مؤتمر «سيدر» بإجراءات فاعلة.
وقال نديم الملا مستشار الرئيس الحريري: «لن يكون سهلاً الانتقال من حال التردي إلى حال الإصلاح والنمو، لكنني أعتقد أننا نسير على الطريق الصحيح، وأهم ما في المسألة أن القوى السياسية واعية لهذا الأمر»، لافتاً إلى أن «معظم الإصلاحات التي طرحت في مؤتمر (سيدر) وضعت الدولة خطة جديّة لمعالجتها، وباشرت إجراءاتها، والبيان الوزاري سيكون واضحاً بهذا الأمر، وسيحدد الأطر العملية لتطبيق الإصلاحات في كل القطاعات العامة ووقف الهدر القائم».
من جهته، أكد الخبير الاقتصادي غازي وزنة أن «ملف اللاجئين السوريين يشكّل تحدياً كبيراً، لأنه يرهق خزينة الدولة، وليس للبنان قدرة على تحمّل أعبائهم، خصوصاً أن المساعدات الخارجية غير جدية؛ إذ إن ما يحصله لبنان من مساعدات لا يبلغ عتبة المليار دولار، بينما تكلفة أعباء اللجوء تزيد على المليارين سنوياً»، مشدداً في الوقت نفسه على «إطلاق حملة وطنية واسعة لمكافحة الفساد، الذي باتت تكلفته عالية وتفوق 2.5 مليار دولار، ويفترض أن يكون ذلك على رأس أولويات القوى السياسية». وإذ دعا وزنة القوى السياسية التي رفعت شعارات محاربة الفساد خلال الحملات الانتخابية إلى «ترجمة أقوالها إلى أفعال»، لفت إلى أن هذه القوى «باتت تستشعر مخاطر الوضع الاقتصادي، وتلمست ردود فعل المواطنين الذين سئموا من واقع الفساد المستشري»، مشيراً إلى أن «الجميع يدرك عدم إمكانية الاستمرار بهذه الطريق».