لا شك في أنه واحد من أشهر وأجمل الأفلام في تاريخ النوع المسمى «كوميديا موسيقية»، ولا شك في أنه ظهر أواسط ستينات القرن العشرين ليجدد في النوع، ولكن، أكثر من هذا، ليعطي الممثلة والنجمة الكبيرة أودري هيبورن واحداً من أجمل الأدوار التي لعبتها في حياتها وأكثرها إشعاعاً. يومها شاهده عشرات الملايين وحفظ كثر منهم أغنياته عن ظهر قلب، حتى من بينهم أولئك الذين لا يتقنون الإنكليزية. ولكن يومها، إذا كان كثر قد عرفوا أن فيلم «سيدتي الجميلة» مقتبس بشكل غير مباشر عن أسطورة «بيغماليون وغالاتيا» الإغريقية، فإنهم لم يكونوا كثراً أولئك الذين تنبهوا إلى أن الفيلم الذي حققه الهوليوودي المخضرم جورج كيوكر، كان مأخوذاً بصورة مباشرة عن مسرحية كتبها جورج برنارد شو، كبير كتاب المسرح الاجتماعي، بل حتى السياسي الساخر في بدايات القرن العشرين. والحقيقة أن الأصل المسرحي لـ «سيدتي الجميلة» لم يكن واحداً. ففي القرن التاسع عشر، وفي بريطانيا الفكتورية بالتحديد، تعددت الاقتباسات عن تلك الأسطورة الإغريقية، ودائماً من موقع السخرية من الطبقة الأرستقراطية الإنكليزية وقواعدها السلوكية. وكان ذلك هدف الكاتب على أي حال حين انكبّ على أسطورة النحات الذي صنع تمثالاً لامرأة جميلة لم يدر أنه وقع في هواه/هواها إلا حين ثار/ثارت عليه مطالبة بحقوقها. وطبعاً نعرف أن تمثال الأسطورة قد تحول، في مسرحية شو الى بائعة زهور حسناء مبتذلة اللغة، والنحات تحول الى أستاذ في علم الصوتيات. ولسوف يقول شو على أي حال أنه بقدر ما اقتبس شخصيته الذكورية الرئيسية في المسرحية من النحات اليوناني القبرصي القديم، اقتبسها كذلك من توليفة بين عدد من علماء إنكليز في مجال الصوتيات كان يعرفهم حقاً ومن بينهم ألكسندر ملفيل بيل وألكسندر دجي إيلليس وبخاصة هنري سويت. غير أن هذا ليس موضوعنا هنا.
> موضوعنا هو بالتحديد تلك المسرحية كما تركّبت بقلم شو في العام 1912 وقد كان من المفترض أن تمثلها الفنانة الشهيرة في ذلك الحين مسز باتريك كامبل، لكنّ عارضاً صحياً أصابها أجّل العرض الأول الى تشرين الأول(أكتوبر) من العام التالي ليصبح العمل من فوره على كل شفة ولسان ولتحاكى المسرحية وتُقتبس وتقدم من فورها في عدد كبير من البلدان واللغات. وهو نفس ما حدث على أي حال بعد ظهور الفيلم في أشكال عدة منذ العام 1938 بخاصة في العام 1964 كاقتباس من كوميديا موسيقية مسرحية انطلقت من الحكاية لتشمل تنويعات عدة عليها.
> تبدأ أحداث مسرحية شو - كما سيكون حال فيلم جورج كيوكر - من البروفسور هنري هيغينز الذي يبدو لنا من خلال استعراضه نفسه أمام صديق تعرف إليه لتوه ذات عشية أمام مدخل سوق الخضار في كوفنت غاردن هو الكولونيل بيكرنغ، واثقاً من قدراته العلمية في مجال دراسة اللهجات الشعبية، كما من قدرته على تحويل بائعة الزهور إليزا ذات اللكنة المبتذلة واللسان السليط الى سيدة مجتمع خلال الاشتغال عليها وعلى منطوقها فترة من الزمان. وبالفعل يتراهن الصديقان فيما يطلب البوفسور هيغنز من اليزا، أن توافيه الى دارته. وهي تقبل بالنظر الى أن الأمر سيكون مغرياً بالنسبة اليها هي التي تعاني من مكانتها الاجتماعية الوضيعة وأبيها السكير الذي لا يتوقف عن انتزاع مدخولها البسيط منها. وبهذا، بعد ذلك الفصل الأول الذي نفهم من خلاله أن بيكرنغ إنما جاء من الهند ليلتقي هيغنز للبحث معه في شؤونه العلمية، بينما كان هيغينز عازماً أصلاً على موافاته في الهند، ننتقل الآن في الفصل الثاني الى دارة هيغنز التي تديرها السيدة بيرس. وإذ تصل إليزا الى الدارة بكامل «أناقتها» السوقية ولهجتها «الهمجية» تستقبل من البروفسور بكل صلافة فتتصدى له معلنة أنها، على أيّ حال، سوف تدفع له من بيعها الزهور، نفقات تعليمها. يسخر منها الرجل طبعاً فيما هو يطلب من السيدة بيرس أن تبدل لها من «أناقتها» وتخصها بغرفة في الدارة. وبعد ذلك، يظهر الفريد دوليتل والد إليزا وكل ما يهمه أن يبتز بعض المال من هيغنز لقاء اشتغال هذا على ابنته. والطريف أن دوليتل بدلاً من أن يقدَّم لنا شريراً هنا يقدَّم رجلاً بذكاء شعبي ووعي طبقي مدهش. وفي النهاية، حين تعود إليزا وتراه تكون ملاسنة بين الأب وابنته تنتهي على الكولونيل بيكرنغ متصدياً له طارداً إياه فيما يستنتج البروفسور والكولونيل، أن مهمتهما لن تكون سهلة.
> وننتقل في الفصل الثالث الى غرفة رسم تشغلها السيدة هيغينز في دارتها الأرستقراطية حيث يخبرها ابنها اشتغاله على تحويل بائعة الزهور الفقيرة الى سيدة من علية القوم. لكن الأم لا تبدو مهتمة كثيراً بما يفعله ابنها الذي ها هو يتقدم في السن ولا يزال عازباً «يتلهى بعلوم غير مجدية». مهما يكن من أمر فإن إليزا تدخل القاعة هنا ضمن إطار يوم الزيارة الذي تخصصه هيغنز الأم لضيوفها. وهنا تلاحظ السيدة هيغنز أن الفتاة تتحدث عن الطقس بكلمات راقية بعض الشيء ولكن اللكنة كانت لا تزال مبتذلة. فالواقع أن إليزا حتى وإن كانت قد حققت تقدماً خلال الأيام السابقة تحت رعاية الكولونيل والبروفسور والسيدة بيرس، فإن الطريق لا تزال طويلة أمامها قبل أن يكسب أستاذها رهانه. وهذا الأخير لا يبدو مهتماً بغير كسب الرهان بينما نلاحظ، وتلاحظ السيدة هيغنز الآن من طرف خفي أن فؤاد الصبية بدأ يميل جدياً ناحية الأستاذ فيما هذا الأخير لا يعبأ بهذا الأمر. ومن هنا ما ينتهي اليه هذا الفصل من تمتمة السيدة هيغنز: «يا للرجال! يا للرجال! يا للرجال!». والحال ان الحفل المقام للمناسبة هنا يشهد الى حد ما على أن إليزا تتبدل حقاً. وهو ما يقر به الكولونيل أمام صديقه في منتصف الليل حين يعودان معاً من الحفل، إذ نكون هنا قد انتقلنا الى الفصل الرابع. وهنا، فيما تقف إليزا وحيدة في زاوية القاعة في منزل هيغنز لا يلتفت إليها أيّ من الرجلين فيما يهنئ الكولونيل صديقه العالم على كونه قد كسب الرهان، تنظر إليزا الى الرجلين بحزن شديد إذ تدرك بذكائها الفطري هنا أنها لم تكن بالنسبة اليهما - ولكن خاصة بالنسبة الى الكولونيل هيغنز - سوى فرس رهان وموضوع سجال بينهما دون أدنى اعتبار لشخصها وكرامتها، ثم خاصة لعواطفها. فهي الآن تدرك أنها إذ أحبت الكولونيل، إنما كان حبها من طرف واحد وانها هي لم تكن بالنسبة إليه أكثر من ذلك التمثال الذي اشتغل عليه نحتاً وصقلاً حتى جعله تحفة بين التماثيل. لكنه بقي بالنسبة إليه تمثالاً لا أكثر. بل أسوأ من هذا تلمح إليزا في سياق الحديث الذي راح الصديقان يتبادلانه دون أن يلاحظا حتى وجودها بينهما، أنها لم تكن في موقفها بأفضل من فتاة هوى لها دور ووظيفة تؤديهما. وهكذا يتفجر الموقف الى درجة يصل معها هيغنز الى لوم نفسه لأنه أضاع وقته وعلمه على أمر لا قيمة له. وفي اليوم التالي، نجدنا في غرفة السيدة هيغنز الأم وقد اكتشف البروفسور والكولونيل اختفاء إليزا، فيتصلان بالشرطة سعياً لمعرفة ما حدث لها، وقد بدا أخيراً على هنري هيغنز أن باله مشغول حقاً وأنه يحس بخسارة ما... إنما دون أن يدري تماماً كنه هذه الخسارة... وفي نهاية الأمر حين تعود إليزا وقد باتت أكثر من أي وقت مضى واثقة من نفسها، سيدة حقيقية موزونة الكلام لائقة التصرف، تنقلب المواقف حقاً: أجل لقد ربح هيغنز رهانه وحوّل بائعة الزهور المبتذلة ذات اللسان السليط الى سيدة جميلة راقية مميزة. لكن الثمن الذي سيدفعه من حريته واسقلاله في حياته سيكون غالياً. وهو على أي حال يتنوع تبعاً لنسخ عدة من المسرحية تقدم بين الحين والآخر، ولا مجال هنا لحصرها كلياً.
> والحقيقة أن «بيغماليون» التي استُقبلت بترحاب فائق من قبل النقاد حيثما قُدّمت أول الأمر في لندن ونيويورك وفيينا وغيرها، سرعان ما راحت تُقدّم ولا سيما على مسارح لندن المتنوعة، بنهايات متبدلة تبعاً لما راح الجمهور يرغب فيه. ومن هنا، لئن كانت هذه المسرحية قد اعتُبرت تجديداً في مسار جورج برنارد شو وأسلوبه، فإنها كانت واحدة من أكثر مسرحياته عرضة لتبديل جذري في خاتمتها، علماً بأن النهاية السعيدة التي جُعلت لها في فيلم جورج كيوكر سترتبط بها الى الأبد.