يتصرّف الثنائي الشيعي بـ «براغماتية»، وكذلك الدكتور سمير جعجع. وهذا التقاطع على «البراغماتية» ستكون له ثمارُه في المرحلة المقبلة: الثنائي يعرف حدودَه في «فرض الشروط»، وجعجع يعرف حدودَه في «رفض الشروط»... فيلتقي الطرفان في مكانٍ ما، عند منتصف الطريق.
 

ينبغي التوقف عند تأكيد الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله تصميمَ «الحزب» على تحمُّل المسؤولية في مكافحة الفساد ووقف الهدر، متحدّثاً عن التعاون في هذا الشأن، «حتى مع الذين نختلف معهم استراتيجياً». وهذا الكلام يعني- في الحكومة- القوى المصنّفة في 14 آذار، ولكن خصوصاً «القوات اللبنانية» التي لها قصتها الطويلة مع هذا الملف في الحكومة المستقيلة.


إذاً، بعث السيد نصرالله برسالة ذات مغزى في اتّجاه «القوات». وتوقيتها يأتي في غمرة الحديث عن محاصرة «القوات» وعزلها لكونها الصوت الاعتراضي في الحكومة العتيدة. ولا بدّ أنّ «القوات» قرأت هذه الرسالة باهتمام.


فـ«القوات» ووجِهت بحملة مبكرة لعزلها وتطويقها، كانت أولى علاماتها إبعادها عن هيئة مكتب المجلس. وثمّة مَن اعتبر أنّ هذا الموقف «الهجومي» على «القوات» يهدف إلى «أكل رأسها» والقوطبة على «قفزة» قد تقوم بها، مستقوية بانتصارها في الانتخابات، إذ تمكّنت وحدها، ومن دون تحالفات مُهمّة، من مضاعفة حجم كتلتها النيابية، من 8 نواب إلى 15.


يعتقد البعض أنّ «القوات» تلمّست الإشارة، وهي تعرف أنّ حدود اللعب مضبوطة. فالغالبية الساحقة تبصم على خيارات التسوية المعروفة، المعقودة في 2016، بمَن فيها الرئيس سعد الحريري. وتالياً، ليس أمام «القوات» أيُّ فرصة لوقف هذا المسار أو تعديله، لأنها تبقى أقلّية.


وما زال في أذهان الجميع اختبار الحريري في السعودية، في تشرين الثاني الفائت. فهو كان أكبر فرصة لتعديل محتمل في نهج التسوية، بدعمٍ مباشر من قوى إقليمية ودولية. لكنه انتهى، خلافاً لذلك، بتثبيت النهج بدلاً من تعديله.


وتدرك «القوات» أنّ فُرَص التغيير باتت معدومةً في ظلّ المجلس الحالي الذي جاءت غالبيّتُه الساحقة لـ«حزب الله» وحلفائه. ولذلك، ستحاول توسيع هامش حركتها إلى الحدّ الممكن، من دون أن تخرّب علاقتها مع قوى السلطة جميعاً، من الرئيس ميشال عون و«التيار الوطني الحر» إلى الحريري فالثنائي الشيعي وجنبلاط و«المردة» وسواهم. فهي ستحاذر إعطاءَ أحد مبرّراً لاستهدافها وإحراجها لإخراجها.


حتى اليوم، اصطدمت «القوات» بطرفين، في مجلس الوزراء: «التيار»، ثم شريكه الحريري. ولكن، من المفارقات أنها لم تصطدم بالرئيس بري أو بـ«حزب الله» أو جنبلاط أو «المردة»، لأنّ عناوين الصدام لم تكن سياسية- استرتيجية- أمنية، بل اقتصادية وإدارية وتنموية وتتعلق خصوصاً بالفساد والشفافية والمال العام.


لقد وقف الرئيس بري و»الحزب» وجنبلاط إلى جانب «القوات» في العديد من العناوين. وعلى الأرجح، لن يتغيَّر النهج والتوازنات في الحكومة المقبلة. ولذلك، ستتكرّر خريطة المواجهة داخل مجلس الوزراء المقبل. ومن هنا، يمكن فهمُ الرسالة التي وجّهها نصرالله حول الفساد والاستعداد للتعاون مع القوى التي تختلف مع «الحزب» استراتيجياً.


وإذا كانت «القوات» ستجد نفسَها مرتاحةً إلى هذا التعاون في الملفات الاقتصادية، فإنّ الملفات السياسية أو الاستراتيجية كمسألة الانفتاح على دمشق الأسد لن تمرَّ بهذه السهولة. وهنا تبدو أهمّية التموضع الذي سيختاره الحريري. ولكن في أيِّ حال، يقول المطّلعون، لن تسمح «القوات» باستفرادها حتى في الملفات السياسية من أجل تبرير عزلها.


في تقدير هؤلاء المطّلعين، أنّ «القوات» سترمي كرة الملفات السياسية الحساسة وذات البعد الاستراتيجي في ملعب الإجماع داخل مجلس الوزراء. وهي لن تتخلّى عن مبادئها وطروحاتها في هذا الملف الذي يثير إشكالية، ولن توافق على ما تعتبره خطأً، ولكنها ستتصرّف وفق مقتضيات المؤسسات إذا أقرّت أكثريةٌ ساحقة في مجلس الوزراء أو أكثريّة ساحقة في مجلس النواب قراراً معيّناً، ضمن الأطر الدستورية السليمة. وعلى الأرجح، لن يشكّل هذا الموقف أيَّ استفزاز لـ»حزب الله» وحلفائه.


إذاً، الصورة واضحة لدى «القوات» والثنائي الشيعي، في ما يتعلّق بالمرحلة المقبلة. ولذلك، الواضح أنّ محرِّكَ الحملة على «القوات» كان «التيار» وليس خصومها في 8 آذار. ومن هنا، يعتقد المطّلعون أنّ «القوات» ستعتمد خيارَ الانفتاح على القوى السياسية كافة، ومنها «حزب الله».


وتنظر «القوات» بإيجابية إلى رغبة «الحزب» في المشارَكة الفاعلة في الحكومة لأنّ ذلك يدعم فكرة تمسّكه بالدولة وخوضه الصراع من داخلها، وهو ما تشجّعه «القوات». وقد تسمح الظروف باتّصالاتٍ بين الطرفين، تبدأ بالعناوين التنموية والإصلاحية وتأخذ في الاتّساع.


وقد يكون مُبكراً الكلامُ على حوار بين «القوات» و«الحزب»، لكنّ الظروف الموضوعية تقرِّب بين الطرفين. وليس في خطاب أيٍّ منهما أيّ تشنّج تجاه الآخر. وعلى الأرجح، لا يطلب «الحزب» من «القوات» أن تنخرط في نهج 8 آذار، فهذا صعب جداً، كما أنّ «القوات» لا تطمح إلى إجبار «الحزب» على التخلّي عن سلاحه واستراتيجيّته الإقليمية، فهذا مستحيل.


لكنّ «الحزب» يرغب في كسب علاقة طبيعية مع قوة مسيحية لها كتلة من 15 نائباً «صافياً»، ما يجعلها تضاهي قوة الحليف المسيحي الآخر، أي «التيار الوطني الحر»، بعدد النواب المحسوبين عليه بالمعنى الضيّق، وهم 19. علماً أنّ الأصوات التفضيلية التي حصل عليها الطرفان المسيحيان، بإجمال الدوائر الـ15، متقاربة.


ويهمّ «القوات»، بواقعيّتها، أن تحافظ على علاقة طبيعية مع «الحزب». وعلى رغم التصويت بالورقة البيضاء لرئاسة المجلس النيابي، فـ«القوات» تنظر بإيجابية إلى موقع الرئيس نبيه بري.


إذاً، «على النار»، تعاون بين «القوات» والثنائي الشيعي يصبّ في مصلحة الطرفين: بالنسبة إلى «القوات» هو يمنع خيارات العزل والحصار، وبالنسبة إلى الثنائي هو يوسّع قاعدة أصدقائه المسيحيين، ما يقلّص هوامش «الدلع» التي استخدمها «التيار» أحياناً كثيرة وشكلت إرباكاً لتفاهم شباط، المظلّل بمار مخايل.