بدأت القصة مع التحالفات الانتخابية حيث سعت «القوات» ببراءة للتحالف مع «التيار الوطني الحر» في الدوائر المسمّاة الأطراف في محاولة للتعويض من خلال التحالف ما لا تستطيع تأمينُه عبر قانون الانتخاب، ولكنها تفاجأت بقطع الطريق على تحالفٍ من هذا النوع يعزّز حظوظ الطرفين بالفوز، فيما فضّل باسيل استبعادَ التحالف حتى لو أنه يقلّل من حظوظهما، لأنّ المهم ألّا تحصد «القوات» مقعداً نيابياً في تلك الدوائر.
لم تشأ «القوات» وضعَ ما حصل في تلك الدوائر في إطار خلفيات سياسية معيّنة، إنما وضعته في سياق التخبّط الانتخابي وغياب الرؤية الواضحة، وما زاد الطين بلّة محاولات مقصودة لإبعاد أيِّ تحالف بين «القوات» و»المستقبل» من خلال إحراج الأخير بتحالفات مع العهد، والمقصود من وراء قطع الطريق على تحالف من هذا النوع إضعاف قدرة «القوات» على حصد باقة من المقاعد بقوتها ومن دون أن تأخذ شيئاً من درب «المستقبل»، وعلى سبيل المثال كانت حصدت مقعد صيدا-جزين مع المرشح عجاج حداد، فيما السيدة بهية الحريري فازت منفردة، وفي الشمال المسيحي كان نجح النائب السابق فادي كرم ومرشح «المستقبل» نقولا غصن، وفي بيروت الأولى كان فاز النائب ميشال فرعون، وفي زحلة كانت حصدت مقعداً ثالثاً، وفي مرجعيون حاصبيا كان نجح المرشح فادي سلامة...
وفي مطلق الأحوال دلّت التحضيرات للانتخابات على أمرَين أساسيَّين: الأمر الأول يكمن في فعل أيِّ شيء من أجل قطع طريق التحالفات على «القوات» في محاولةٍ لإنقاص حجمَها النيابي قدر الإمكان، والأمر الثاني إبرام تحالفات من كلّ وادٍ عصا بغية الخروج بأوسع تكتّل يمكن تصوّرُه.
ومع الاقتراب من موعد الانتخابات فتح الوزير باسيل النيرانَ السياسية على «القوات» بعدما لمَس لمْسَ اليد حجمَ التعاطف الشعبي معها، فاعتبر أنّ الوسيلة الوحيدة لإعادة إفقادها هذا التعاطف أو الحدّ منه يكمن في الهجوم عليها، متّكئاً في ذلك على نظريّةٍ مفادها أنه صحيح أنّ مصالحة معراب فتحت طريقَ قصر بعبدا أمام العماد ميشال عون، ولكنها في الوقت نفسه فتحت طريق الدكتور جعجع أمام الشرائح غير الحزبية والتي تقليدياً أقرب إلى الحالة العونية من الحالة القواتية.
وهذه الشرائح ظلّت بعيدة عن «القوات» بفعل التحريض التضليلي المستمرّ ضدها، وفي اللحظة التي توقف فيها التحريض أعادت اكتشافَ «القوات»، فرأت فيها قوةً سياسية متصالحة مع نفسها ولا تساوم على مبادئها وتُعلي الدستورَ والقانونَ في ممارستها للشأن العام، كما رأت في غيرها قوّةّ إنتهازيّة أولويّتها تحقيق مصالحها الذاتية، ولا تقيم وزناً للدستور والقوانين المرعيّة، وبالتالي المقارنة التي كانت معطّلة قبل المصالحة أضحت شغّالةً بعدها، والعودة إلى زمن التضليل أصبحت مستحيلة، فما مضى قد مضى، وما كان يصحّ مع العماد عون لا يصحّ مع الوزير باسيل.
فأكثر ما أزعج الوزير باسيل أنّ قوة «القوات» تاريخياً مردّها إلى قوة تنظيمها، فيما قوة «التيار الوطني الحر» مردّها إلى التفاف الرأي العام حول التيار، وبالتالي التحوّل الذي تُرجم في الانتخابات أظهر التفافاً غيرَ مسبوق مع «القوات» ومردّه ليس فقط للمصالحة التي كسرت الحواجز، إنما أيضاً إلى ثلاثة عوامل أساسية:
العامل الأول يتّصل بانتخاب العماد عون رئيساً وما رافقه على امتداد حوالى ثلاثة عقود من تسويق بأنّ وصولَه إلى قصر بعبدا يؤدّي إلى وصول الجمهورية اللبنانية إلى شاطئ الأمان، والمقصود هنا ليس انتقاد الرئيس عون الذي لا يستطيع تحقيق المعجزات في وضعٍ معقّد، إنما غالبا ما تكون نتائج التضخيم سلبية جداً على أصحابها، فاكتشفوا أنّ دورَه لن يتجاوزَ إدارة الأزمة، وأنّ الجمهورية تواصل غرقها في الرمال الإقليمية المتحرّكة ومن دون تحقيق أيِّ نقلة نوعية حتى في الملفات الحياتية وبنية الدولة المؤسساتية.
العاملُ الثاني يتعلّق بالوزير باسيل الذي ضيّع الناسَ في مواقفه وتحالفاته وخلافاته، وإذا كانت الناس تؤيّد المصالحات وتجسير العلاقات، إلّا أنها لا تنظر بإيجابية إلى التقلّبات الجَذرية من العداوة مع «المستقبل» إلى التحالف الاستراتيجي معه، ومن المساكنة مع الرئيس نبيه بري إلى شنّ حملة عليه كادت تنزلق بالبلد إلى حرب أهلية ومن ثمّ إبرام تسوية معه على عضوية أمانة سرّ، ومن المصالحة مع «القوات» بهدف رئاسي إلى التنصّل من الاتّفاق معها بعد تحقيق الهدف المنشود، والأهم من كل ذلك أنّ الشعبية التي حصدها عون بفعل تقلّباته ومواقفه الهجومية واستطراداً أسلوبه السياسي، لن يستطيع باسيل الحفاظ على هذه الشعبية بالأسلوبِ نفسِه، لأنّ ما يحقّ لعون شعبياً لا يحقّ لباسيل، وبالتالي اعتماده الأسلوب نفسه قد يخلق، ربما، التفافاً حزبياً حوله، ولكنه يولِّد بالتأكيد نفوراً لدى الرأي العام ضده.
العامل الثالث يرتبط بـ«القوات اللبنانية» التي سمحت ظروفُ التهدئة السياسية التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة بأن يكتشفَ الرأيُ العام صورة «القوات» على حقيقتها: تزاوج بين المبدئية والواقعية، فلا تتخلّى عن مبدئيّتها لمصلحة واقعيّتها، ولا تسمح للمبدئيّة بأن تخرجَها من واقعية الحياة السياسية؛ لا تخوض معارك دونكيشوتية، وتتمسّك بقيام الدولة الفعلية ولا تفوِّت مناسبةً لتعزيز دور الدولة، وترفض الحوار مع «حزب الله» خارج المؤسسات وتتقاطع معه داخلها؛ تلتقي مع الرئيس بري في أكثر من موقف وعنوان، ولكن هذا لا يعني تأييد انتخابه في رئاسة مجلس النواب بسبب خياره الاستراتيجي، فلو انتخبته مثلاً كان هناك مَن سيقول إنّ أولويّة «القوات» محاصرة باسيل لا سلاح «حزب الله»، على رغم أنّ باسيل يشنّ حرباً شعواء عليها؛ تحالفها الاستراتيجي مع «المستقبل» لا يحول دون غض النظر عن طريقة ممارسته للشأن العام، والتفاهم مع «التيار الحر» لا يعني شيكاً على بياض؛ لا تتقلّب في مواقفها ولا تحالفاتها، وتجربتها الحكومية أظهرت أنّ حليفها الوحيد هو الدستور والقانون.
فأمام كل ما تقدّم، جاء مَن لفت انتباهَ باسيل إلى الآتي: نجاح «القوات» في تحقيق التوازن مع «التيار الحر» شعبياً ونيابياً في مطلع عهد الرئيس عون على رغم وهج السلطة والتوزير والخدمات وفرص العمل، يعني أنها ستكتسح الساح في نهاية عهده، الأمر الذي يستدعي الاستنفار لمواجهة المستقبل، أي مواجهة استحقاق ٢٠٢٢، فقرّر الاشتباكَ لشدّ العصب أوّلاً، والسعي ثانياً لمنع «القوات» من ترجمة انتصارها انتخابياً داخل الحكومة التي يمكن أن تحكمَ البلد للسنوات الأربع المقبلة، وبالتالي إخراجها من المشهد السياسي الأساسي الذي راكمت فيه «القوات» ثقة واحتراماً.
وقد يستطيع باسيل في حربه ضد «القوات» والتي يخوضها لاعتباراته الشخصية أن يُقنع أكثرَ من فريق بجدواها من زاوية أنّ «القوات» فريق مزعج سيادياً وإصلاحياً، وبالتالي لا بد من محاصرتها والتضييق عليها.
وكل ما تقدّم مردّه إلى أمرٍ أوحد وهو رفض الشراكة، والانقلاب على نتائج الانتخابات التي أفرزت ثنائية ديموقراطية تنافسية، كما الانقلاب على النص المكتوب في تفاهم معراب والذي ينصّ صراحة على المساواة، فيما كان بالإمكان، والوقتُ دائماً مُتاح، تطوير التفاهم الذي برهن قدرته على انتخاب رئيس وإقرار قانون انتخاب تمثيلي.
ويبقى السؤال الأساس: هل سينجح الوزير باسيل في تجاوز نتيجة الانتخابات حكومياً بعدما فشل في منع «القوات» من ترجمة حضورها انتخابياً؟