يبدو أن العروض التزويقية التي قدمتها كل من قطر ومصر.. وآخرين للفلسطينيين فشلت في ثنيهم عن المسير نحو العودة في الذكرى السبعين للنكبة. الزحف المليوني نحو الحدود الواهية له أكثر من دلالة، وعليه قد تبنى نتائج، وربما يتغير المشهد العام بعد أن توالت الخيبات من الأداء العربي، أكثر مما كان الحال عليه يوم النكبة الأم.
إن التحرك الإسرائيلي الذي سبق الذكرى يعكس خشية حقيقية من الشارع الغاضب. لم يقصّر الفلسطينيون في المقاومة، هم تعلّموا الفداء وعلّموا الآخرين المواجهة. لكنهم يفتقدون ما يجعل نضالهم أكثر أثراً: من التوافق في البيت الواحد إلى الدعم العربي الرسمي والشعبي بكل أشكاله، حتى يصبح مشروع المقاومة سيد العناوين. وإذ تبدو هذه اللوازم بعيدة، إذاً، فلنرمِ أجسادنا في الهواء ونتلقف بصدورنا الرصاص ونعود إلى الميدان مسلحين بإرادة لا تعرف الانكسار.
سبعون عاماً على النكبة، وأربعة وخمسون عاماً على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وإحدى وخمسون عاماً على النكسة، وإحدى وثلاثون عاماً على اندلاع الانتفاضة الأولى، ونحن نراكم الوجع. مرة من الصديق ومرات من الشقيق، ونختلف على أشياء كثيرة. لقد ملّ الفلسطيني من الأمل ولم يفقده، إذ ما زال رغم الوجع "يربي الأمل" أيضاً.
فصائل الشعب الفلسطيني فعلت الكثير ليصبح ظلم ذوي القربى أشد إيلاماً. تناحرت على السلطة فاقدة الشرعية والتأثير والإجماع الوطني، الذي فاقم من غيابه مجلس وطني جديد لم يفعل سوى تكريس الانقسام وتلاوة بيانات قديمة، محتشدة بالإنشاء وبعيدة عن الأفعال المطلوبة. ولكن الشعب الفلسطيني لم يلتفت إلى كل هذا، ولم يعقه عجز القوى التي تدعي تمثيله، عن أخذ المبادرة بيده.
الانتخابات النيابية وانكشاف العورات
في ذكرى نكبتنا، جرى حفل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وعلى حدود غزة خطوات تفصل الفلسطينيين عن الحق. حقهم في استرجاع الأرض وحقهم في العودة إلى الديار وحقهم في الاحتفاظ بالمقدسات. وعيونهم تشخص إلى القدس، التي تحتل (متلازمة الواقع والمعنى). هي في الوعي الجماعي ثالوث المقدسات: هي ثالث أقدس المدن بعد مكة والمدينة المنورة، وأولى القبلتين، ومنها عرج النبي محمد إلى السماء، وفيها كنيسة القيامة وحائط البراق والمسجد الأقصى.
لكن المقدَّس هو فلسطين بكامل ترابها. كل شبر هو محرَّم، كل حائط للفرح لا للبكاء، كل صخرة هي سجادة صلاة. ليست فلسطين القدس فقط، إن فلسطين من البحر إلى النهر هي قدس الأقداس، ولأجلها ينبت الأمل ونموت كل يوم ونولد مع كل موت أكثر عزماً على استرداد الحق، هذه فلسطين. لن يشوه الواقع البائس بهاءها ولن تصير يوماً لغير ناسها. هذه هي الرسالة التي عمدتها دماء عشرات الشهداء وآلاف الجرحى في يوم واحد فقط.
كلُّ شبرٍ قدسنا
تصاعدت المسيرات نحو الحدود في "يوم العودة". وبين الذاكرة والذكرى تاريخ من العذابات عاشها اللاجئون، الشاهد الحق على القضية الفلسطينية في وجه العدو الصهيوني ومعاونيه الشرق – أوسطيين، منذ وقعت نكبة فلسطين. وهي عذابات تصاعدت بعد أن صارت الصورة ضبابية مع الخطط الأمريكية المتكررة، وصولاً إلى جورج بوش الأب والابن وكلينتون وأوباما.. ثم ترامب.
تفاءل العرب بالرئيس الأسود للبيت الأبيض كثيراً! وهم طويلاً ما غفلوا عن أن سياسة أميركا تتقاطع مع أهداف إسرائيل التي تستخدم الوسيلة الصهيونية والدعاية الصهيونية واللوبي الصهيوني، كرمى لأطماعها في وجودنا قبل ثراوتنا.
وها هو ترامب يترع الكأس احتفالا بنقل سفارته ويوفد مندوبه السامي، صهره العتيد وابنته بعد أن مهد للحفل الجماعي، صفقات سلاح بملايين الدولارات مع العرب يستردها وعوداً بالتطبيع، ريثما تنتهي "طبخة القرن" ومعها ينتهي حق العودة آخر معالم القضية التي تعاون على طمسها أهل البيت والجيران ومن هم وراء البحار.
لا شك أن المشهد السياسي في منطقتنا والعالم أجمع ربما، يدور حول القضية الأم. ولا غلوّ في القول: إن ما يُحاك من خطط وسياسات هو خدمة لمصالح إسرائيل. من هنا، يمكن قراءة الكثير من التحركات، ومسار الأزمات الحقيقية والمفتعلة. ما يريده ترامب اليوم هو ترتيب كامل للفوضى بحيث تقود ترتيباته كلها إلى تقوية العلاقات بين إسرائيل وبين الدول العربية التي أحلّت العداء لإيران بديلاً لموقفها المعلن سابقاً في العداء لإسرائيل التي تحتل فلسطين، ولتشكل هذه الدول ظهيراً للعدو الرابض على حدودنا، ورافعاً علمه فوق قدسنا ومنازلنا، ولتستحيل فلسطين مع الوقت، ترفاً أيديولوجيا للراغبين فقط.
فلسطين العود الأبدي
تعلو أصوات من هنا وهناك لبعض حاملي الشعارات البهية، أن مسيرات العودة عزف على حجر، ومزيد من هدر للدم الفلسطيني. قد يبدو الكلام نظرياً مقارباً للمنطق، لكن من استنفذ كل وسائله في الدفاع عن مسلماته ولم يصل الهدف، ومن سلّم مصيره لأوهام قادته ولم يجنِ إلا الخيبة، ومن يموت كل يوم ألف ميتة قهراً وذلاً وشقاء وحصاراً وقتلاً ودفاعاً ونفياً وترويعاً.. وفي بلاد اللجوء أشكال أخرى من المهانة وصنوفاً ملونة من العنصرية، سيتحول حجراً ورصاصة تفتدي كل حبة تراب حتى نعود، وإن لا.. فنحن نحترف الموت والانتظار ولم نفقد الأمل. سبعون عاماً ونحن نشحن الذاكرة كي لا ننسى.
وفي حين استدعى عدد من الدول الاوروبية سفراء دولة الاحتلال المعتمدين لديها، معربة عن الاحتجاج من استخدام القوة الضارية في مواجهة سلميين، ذهبت دول أخرى الى إجراءات أبعد أثرا من قبيل تركيا وجنوب أفريقيا. وهذا ما يزيد في عزلة دولة الاحتلال وتعريتها أمام المجتمع الدولي، فيما ظلَّ النظام الرجعي العربي غارقا في صمت القبور.
لا خيار للفلسطيني إلا استئناف السير نحو حقه في العودة. نفذت جعبة الفصائل المتهالكة من كل الحلول البديلة، ولو أننا الآن لسنا في وارد الالتفات إلى مهازل السلطة في مقاربة الوضع في الداخل المحتل والخارج المتروك للظروف والصدف، وفي مناخات تجويع الشعب وإلهائه بالخبز، فإن معادلة القادة في كسر الإرادة، ونزوع الملوك والأمراء للتطبيع، ومحاولة الآخرين إنهاكنا، لم تبقِ للصلح مطرحاً. إما الموت بالرصاص الحي أو القضاء بالوهم. يبدو أن الفلسطيني حسم أمره هذه المرة. العودة.. العودة مهما علا الثمن. لأن لا بديل ببساطة.
(وسام سباعنة- مدير مؤسسة جفرا)