حسناً فعل «حزب الله» بإصداره «توجيهاً داخليّاً» يتبرّأ فيه من مواقف صدرت عن بيئته. صحيح أنّه لم يؤكّد وقوفه مع حرّيّة النشاط الفنّيّ والثقافيّ، مكتفياً بعبارة ملتبسة هي أنّه ليس ضدّ «الفنّ الهادف»، لكنّ هذا يبقى أفضل ممّا يقوله الضاربون بسيفه.
الحزب، على الأرجح، يعلم أنّ «وضع السيف في موضع الندى» مُضرّ، وأنّ البنادق والصواريخ لا تُصرف إبداعاً ثقافيّاً: قد تمتلك أكبر البنادق وأصغر العقول، وأبعد الصواريخ إصابةً ومعها أقصر المخيّلات. والحزب، في آخر الأمر، غير معنيّ بالإبداع، يفضّل تجاهله على الاستغراق في مكافحته. هذا، عنده، غير مهمّ، وهو لا يهتمّ إلاّ بما يراه مهمّاً.
المشكلة هي الضوضاء التي يثيرها، بين فينة وأخرى، الضاربون بسيفه ممّن يلبسون طرابيش أكبر كثيراً من رؤوسهم. هؤلاء لا يكفّون عن استخدام «ثقافة المقاومة» لمقاومة الثقافة. و «ثقافة المقاومة» ليست، مثلاً، من صنف الاعتراض الماركسيّ على «الثقافة البورجوازيّة»، والذي امتلك دائماً رموزه الثقافيّة الكبرى وتصوّراته البديلة. هنا، نحن أمام فقر مدهش في السينما كما الأدب، وفي الرسم كما الموسيقى، وفي النحت كما المسرح. فـ «ثقافة المقاومة» هي تعريفاً افتقار إلى الثقافة. حتّى الملاحم، وهي جنس أدبيّ تجاوزه الزمن الحديث، لا تقوى عليه «ثقافة المقاومة». حتّى الزجل، وهو جنس آخر تجاوزته الثقافة المكتوبة، لا تجيده. وقد يقال، تبعاً لتعريف آخر، أنّ «ثقافة المقاومة» طريقة حياة. لكنْ أيّ طريقة حياة بائسة هي التي تهجرها السينما والأدب والرسم والموسيقى والنحت والمسرح و... الملحمة والزجل؟
هذه القطيعة تجعل الدلالات السحريّة في أدبيّات «ثقافة المقاومة» تطغى على الدلالات العقليّة: إذا قلتَ إنّنا مهزومون واستشهدتَ بدمار المدن وتفسّخ الأوطان ونزهات إسرائيل الجوّيّة وأوضاع اقتصاد العرب وتعليمهم، وبألف مَثَل آخر، فأنت إمّا مجنون أو مشبوه. إنّنا نقاوم! هذا يجعلنا منتصرين! العدوّ مهزوم ومأزوم دائماً وجوهريّاً!
«خوش ثقافة» كما يقول العراقيّون.
لكنّ القطيعة إيّاها تملك وظيفة أخرى لا تقلّ خطورة: إنّها تفسّر ميل الناطقين بلسان «ثقافة المقاومة» لأن يمارسوا الرقابة والتشهير المتواصل بالمثقّفين. فالمثقّف، عملاً بـ «ثقافة المقاومة»، هو الرقيب على الثقافة. إنّه من يعرف منها ما يؤهّله ممارسة الرقابة.
واقع الحال أنّ علاقة «ثقافة المقاومة» بالثقافة تشبه تماماً علاقة «الديموقراطيّة الشعبيّة» في بلدان المعسكر السوفياتيّ الراحل بالديموقراطيّة. الاثنتان تغيّران الموضوع الفعليّ وتُحلاّن محلّه موضوعاً زائفاً: «الديموقراطيّة الشعبيّة» تلغي أهمّية الانتخابات كمصدر لإرادة الشعب. «ثقافة المقاومة» تريد أن تنتزع موقعها في الثقافة انطلاقاً من حفر الخنادق. احفرْ خندقين في اليوم تكنْ مبدعاً عظيماً!
وثمّة من ينبّهنا إلى رقابات أخرى لا تثير الحساسيّات التي تثيرها رقابة «ثقافة المقاومة». هناك رقابة السلطة وأجهزتها، ورقابة المؤسّسات الدينيّة والطائفيّة الكثيرة. هذا صحيح. لكنّ تلك الرقابات ضعيفة ومفكّكة، والأهمّ أنّها لا تلوّح بالسلاح الذي لا تملك. فوق هذا، فالرقابات الأخرى لا تنطوي على هذا التمركز الروحيّ والوجدانيّ لـ «ثقافة المقاومة» حول «السيّد»، بما يكبح الحرّيّة بالقداسة، كما لا تسدّ منافذ التواصل مع العالم تبعاً لفكرة واحدة فقيرة وغير ثقافيّة بالتعريف. وهذه كلّها تجعل فتك الرقابة المذكورة أخطر وأعلى كلفة.
ثمّ إنّ الكون الذي تعدنا «ثقافة المقاومة» بالعيش فيه مستوحى من الغابة، حيث القتل والقتال معيار المعايير. وهذا ليس لبنان، وليس ما تطمح إليه أغلبيّة كاسحة من اللبنانيّين، أغلبيّةٌ تخطئ في أمور كثيرة لكنّها تصيب في طلب الحرّيّة، وأوّلها حرّيّة العيش كاختيار، حريّة العيش خارج حتميّة الغابة.