لم تكن الحقبة السورية التي حكمت لبنان بين عامَي 1990 و2005 نتيجة انتصار فريق داخلي على فريق آخر، إنما النتيجة المباشرة لتلك الحقبة كانت بفعل الموازين الدولية والتحوّل في الموقف الدولي وليس بسبب تبدّل الموازين الداخلية.
فالحاكم الفعلي للبنان في تلك الحقبة كانت دمشق، فيما الكلام عن الأدوار الداخلية يصبح تفصيلاً وثانوياً، ولذلك على رغم أهمية التوازنات الداخلية، فإنّ الضوء الأخضر لإطلاق يد النظام السوري في لبنان كان دولياً وأميركياً تحديداً، ولولا ذاك الضوء الأخضر لما كان هناك من نظام وصاية ولا مَن يحزنون.
وقد نجح «حزب الله» في وراثة الدور السوري، ولكنّ هذه الوراثة بقيت محدودةً في الزمان والمكان، والمقصود تحديداً أنها تقتصر على منع قيام دولة فعلية وطبيعية في لبنان، وهذا ليس تفصيلاً طبعاً، إذ لا يمكن الاستهانة ولا التقليل من دور الحزب المعطّل لقيام الدولة، ولكنّ المقصود أنّ الحزب لا يمكن أن يتحوّل قوة وصاية على غرار بعث-الأسد لاعتبارَين أساسيَّين:
ـ الاعتبار الأول خارجي بامتياز والدليل أنه في اللحظة التي أطلقت واشنطن صفارة خروج الجيش السوري من لبنان جمع أمتعته ورحل مهروِلاً من دون حتى التذاكي بالانسحاب الجزئي إلى البقاع أولاً في محاولة مثلاً لامتصاص النقمة الدولية عليه ليعيد انتشاره مجدداً، والمقصود أنّ وجوده في لبنان كان نتيجة تكليف أميركي-إسرائيلي وغضّ نظر سائر الدول الغربية والعربية.
فنظام الوصاية لم يحكم لبنان بجيشه وقوته العسكرية، إنما حكم لبنان بالقرار الدولي المعطى له، الأمر الذي ليس فقط لا ينطبق على واقع الحال المسمّى «حزب الله»، إنما هذا الواقع معاكس تماماً، حيث إنّ المجتمع الدولي لا يفوِّض الحزب إدارة لبنان، ولا حتى يغض النظر عنه، إنما يعمل على تطويقه ومحاصرته، كما تطويق ومحاصرة عمقه الإقليمي المتمثل بطهران.
فالظروفُ الخارجية المسهّلة والمتسامحة مع الدور السوري في لبنان من واشنطن إلى الرياض انقلبت اليوم إلى ظروف معرقلة لأيِّ تمدّد إيراني ومواجهة لنفوذ إيران من طهران إلى بيروت، والاشتباك الإسرائيلي-الإيراني يحصل على الحدود اللبنانية، وهو اشتباك فريد من نوعه وأظهر أنّ قوة طهران تكمن في المزايدات على الطريقة العربية، أو في ميليشياتها المزروعة في أكثر من دولة في العالم العربي.
فالعودة إلى ما قبل آذار 2005 لا يمكن أن تتمّ بلا ظروف دولية وإقليمية مساعدة في هذا الاتّجاه، فيما الظروف الدولية والإقليمية تدفع في الاتّجاه المعاكس، حيث إنّ التحديات التي تواجهها طهران غير مسبوقة من عودة العقوبات إلى الانسحاب من الاتّفاق النووي وصولاً إلى الاشتباك العسكري وتهديد وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو بـ»سحق إيران بضغوط اقتصادية وعسكرية ما لم تغيّر سلوكها في الشرق الأوسط»، خصوصاً أنّ واشنطن تضع طهران أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التحوّل دولة سلمية وتلتزم القوانين الدولية وتسحب ميليشياتها من المنطقة وتتعهّد احترامَ سيادة الدول الأخرى وقوانينها، وإما إعادتها بالقوة القاهرة الاقتصادية إلى داخل حدودها عن طريق تشديد العقوبات إلى حدِّها الأقصى، وهذه العقوبات بالذات قادتها مرغمة في المرحلة السابقة إلى التخلّي عن مشروعها النووي تلافياً لانفجارها من الداخل.
الاعتبار الثاني محلّي بامتياز لجهة أنّ قوة طائفية لا تستطيع أن تهيمن على القوى الطائفية الأخرى في ظلّ التوازن الطوائفي الدقيق الموجود، و»حزب الله» لا يملك أكثرية دستورية وشعبية عابرة للطوائف مع مشروعه، ودخول بعض الأسماء التي تدور في فلكه إلى مجلس النواب، أو عودتها بعد انقطاع منذ العام 2005، لا يعني شيئاً على المستوى العملي خارج إطار التطبيل والتزمير و»البروباغندا» عن أنّ الانتخابات الأخيرة أنهت فريق 14 آذار.
وأما انتخاب هذا النائب أو ذاك في هذا الموقع أو ذاك فلا يعني شيئاً أيضاً، ويخطئ كلّ مَن يقدِّر ويتصوّر انّ الانتخابات الأخيرة أفرزت أكثرية 8 آذارية وأقلية 14 آذارية، لأن الأمور لا تقاس اليوم على هذا النحو، والإنتخابات لم تحصل على هذه القاعدة، وفي اللحظة التي يعود الانقسام من الطبيعة الآذارية سيتأكد الجميع ان الأكثرية ستبقى من نصيب 14 آذار، وإن أحداً لن يستطيع ان يحكم بمفرده، وان هذه المسألة جُرِّبت ومن يريد تكرار المحاولة يتحمّل وحده المسؤولية عن انعكاسات محاولته على الانتظام المؤسساتي والاستقرار السياسي.
فتكتل العهد ليس في 8 آذار، وتكتل النائب السابق وليد جنبلاط ليس في 8 آذار، والحالة السنّية الأكبر ما زالت في صميم 14 آذار، والشخصيات السنّية المنتخبة حُرمت من التمثيل بفعل القانون الأكثري ومن حقّها أن تتمثل بالحجم الذي تمثلّت فيه، والحالة المسيحية سيادية بامتياز ومقسومة اساساً بين تمثيل «قواتي» يمثل رأس حربة المشروع السيادي، وتمثيل «عوني» يتموضع في الوسط، والحالة الدرزية سيادية بامتياز، وبالتالي كل الكلام عن انتصار فريق 8 آذار على فريق 14 آذار هو وهم وردود فعل عاطفية أو استفزازية، والرد على هذا الكلام يُختصر بكلمات ثلاث: «إن عدتم عدنا».
فلا الظروف الدولية والإقليمية تؤشر إلى عودة البلاد إلى ما قبل 2005، بل تؤشر إلى عودة الضغط الدولي وبمقدار كبيرعما كان عليه عام 2005 على «محور الممانعة»، ولا الظروف المحلية تؤشر إلى عودة عقارب الساعة إلى ما قبل «انتفاضة الاستقلال»، بل جلّ ما في الأمر أنّ هناك تغييراً في «الديكور» لا يؤثر بتاتاً على صلب البنيان السياسي والمشهد الوطني العام.