«لا تصالحْ!/ ولو منحوك الذهبْ / أترى حين أفقأ عينيكَ/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما... هل ترى..؟ هي أشياء لا تشترى..: ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،/ حسُّكما- فجأةً- بالرجولةِ،/ هذا الحياء الذي يكبت الشوق... حين تعانقُهُ،/ الصمتُ- مبتسمين- لتأنيب أمكما... وكأنكما ما تزالان طفلين!/ تلك الطمأنينة الأبدية بينكما (...)/ هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟/ أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء... تلبس -فوق دمائي- ثياباً مطرَّزَةً بالقصب؟ إنها الحربُ! قد تثقل القلبَ... لكن خلفك عار العرب/ لا تصالحْ... ولا تتوخَّ الهرب. لا تصالح على الدم... حتى بدم! لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ، أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدٌ... سيفها كان لك/ بيدٍ سيفها أثْكَلك؟ (...). لا تصالح... ولو حرمتك الرقاد/ صرخاتُ الندامة/ وتذكَّر...
(إذا لأن قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة) أن بنتَ أخيك «اليمامة» زهرةٌ تتسربل - في سنوات الصبا- بثياب الحداد/ كنتُ، إن عدتُ: تعدو على دَرَجِ القصر، تمسك ساقيَّ عند نزولي... فأرفعها/ -وهي ضاحكةٌ- فوق ظهر الجواد/ ها هي الآن... صامتةٌ حرمتها يدُ الغدر: من كلمات أبيها (...)/ فما ذنب تلك اليمامة/ لترى العشَّ محترقاً... فجأةً،/ وهي تجلس فوق الرماد؟!. لا تصالح/ ولو توَّجوك بتاج الإمارة/ كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟/ وكيف تصير المليكَ.../ على أوجهِ البهجة المستعارة؟ كيف تنظر في يد من صافحوك... فلا تبصر الدم... في كل كف؟/ إن سهماً أتاني من الخلف... سوف يجيئك من ألف خلف (... لا تصالح/ ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام/ وارْوِ قلبك بالدم.../ واروِ التراب المقدَّس.../ واروِ أسلافَكَ الراقدين.../ إلى أن تردَّ عليك العظام!(...). لا تصالح/ ولو ناشدتك القبيلة/ باسم حزن «الجليلة»/ أن تسوق الدهاءَ/ وتُبدي -لمن قصدوك- القبول/ سيقولون: ها أنت تطلب ثأراً يطول/ فخذ -الآن- ما تستطيع: قليلاً من الحق... في هذه السنوات القليلة/ إنه ليس ثأرك وحدك،/ لكنه ثأر جيلٍ فجيل (...). لا تصالح ولو قيل إن التصالح حيلة/ إنه الثأرُ/ تبهتُ شعلته في الضلوع.../ إذا ما توالت عليها الفصول.../ ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس) فوق الجباهِ الذليلة!(...)./ لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم/ ورمى لك كهَّانُها بالنبأ.../ لا تصالحُ... إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة: النجوم... لميقاتها والطيور... لأصواتها والرمال... لذراتها/ والقتيل لطفلته الناظرة.
كل شيء تحطم في لحظة عابرة: الصبا- بهجةُ الأهل- صوتُ الحصان- التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي- الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ- مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة/. كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة/ والذي اغتالني: ليس رباً.../ ليقتلني بمشيئته ليس أنبل مني... ليقتلني بسكينته/ ليس أمهر مني... ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة/. لا تصالحْ فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ... (في شرف القلب)/ لا تُنتقَصْ/ والذي اغتالني مَحضُ لصْ/ سرق الأرض من بين عينيَّ/ والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!/. لا تصالحْ/ ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخْ/ والرجال التي ملأتها الشروخْ/ هؤلاء الذين يحبون طعم الثريدْ/ وامتطاء العبيدْ/ هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينه/ وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخْ/. لا تصالحْ/ فليس سوى أن تريدْ/ أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ/ وسواك.. المسوخْ!. لا تصالحْ/ لا تصالحْ».
> لا شك أن القارئ قد تعرف في السطور السابقة على واحدة من أقوى وأقسى القصائد العربية التي كنبت خلال العقود الفائتة ومنع نداولها حينها في بلدان عربية عدة. ولا شك أيضاً أن القراء تعرفوا على صاحب القصيدة الذي اختزل حكاية حياته يوماً بقوله: «...عملت في وظائف مختلفة، وحتى الآن لم استقر في عمل معين. اخترت عضواً في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة عام 1980. وأصبت بمرض السرطان وأجريت عمليتين جراحيتين عام 1979 و1980، ولا أزال رهن العلاج حتى الآن. تزوجت عام 1978 من صحافية في جريدة الأخبار القاهرية، ولم أرزق أطفالاً حتى الآن». والشاعر هو طبعاً المصري أمل دنقل الذي كتب من وحي المرض وإقامته في المستشفى في شهور حياته الأخيرة، بعض أكثر قصائد الشعر العربي الحديث قوة ومرارة.
> أمل دنقل كان واحداً من ثلاثة صعيديين، «غزوا» القاهرة ذات يوم بأشكالهم الغريبة التي تشبه، أكثر ما تشبه، تراب الصعيد المصري: يحيى الطاهر عبدالله، أمل دنقل، وعبدالرحمن الأبنودي، وهم يوم غزوهم للعاصمة المصرية حملوا معهم شفافية اللغة الشعرية، حتى وإن كان توجههم اختلف عن بعضهم البعض، فاتجه يحيى الطاهر عبدالله إلى القصة، وعبدالرحمن الأبنودي إلى الشعر الشعبي، بينما تحول أمل دنقل ليصبح مـنذ ديوانه الأول المنشور «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» (1969) واحداً من أبرز شعراء الحداثة العربية في مصر.
> ولئن كان شعر أمل دنقل تميز باستلهامه التراث العربي وتوظيف حكاياته ورموزه في قصائد تدل على الحاضر بأكثر مما تدل على الماضي، فإن هذا الشعر كان في الوقت نفسه، وبالنسبة إلى صاحبه، شعر صراع، ولعل هذا ما ميزه عن رفيقيه الصعيديين الآخرين، اللذين رحل أولهما، يحيى الطاهر عبدالله، عن عالمنا كما كان حال أمل دنقل، شاباً، بينما عاش الأبنودي سنوات عديدة بعدهما يحمل ذكرى الإثنين يملأ بها ثنايا قصائده.
> ولد أمل دنقل في قرية «القلعة» القريبة من مدينة قنا في صعيد مصر في العام 1940، وتلقى علومه الابتدائية والثانوية في قنا، وإن كان ظل يفخر حتى آخر أيامه بأنه لم يستفد من التعليم المدرسي بقدر ما استفاد من مكتبة أبيه العامرة بكتب الأدب والتراث والفقه. فوالده، الذي توفي وأمل في العاشرة من عمره، كان من علماء الأزهر ورجل علم وأدب. في العام 1960، وكان في العشرين من عمره، وبعد محاولة دراسية في كلية الآداب في جامعة القاهرة سرعان ما انقطعت، ترك أمل دنقل الدراسة وانخرط في سلك الوظيفة في محكمة قنا ثم في الجمارك. وفي تلك الآونة بدأ ينشر قصائده في الصحف المصرية وراحت تلك القصائد تلفت الأنظار. وما أن بات معروفاً بعض الشيء حتى حقق حلماً أثيراً لديه، وهو أن يترك الوظيفة وينصرف إلى الكتابة. وأتيح له في تلك الفترة أن يعمل صحافياً في مجلة «الإذاعة» وكان يشغل تلك الوظيفة حين صدرت مجموعته الأولى وبات علماً من أعلام جيل الستينات. وهذا مكنه من أن يحصل، العام 1971، على منحة تفرغ من وزارة الثقافة المصرية، لكي يحقق عملاً شعرياً عن قناة السويس. لكنه لم يتمكن أبداً من إكمال هذا العمل.
> في العام 1971، وكانت الثقافة المصرية بدأت تتراجع عن الازدهار الطليعي الذي عرفته في الخمسينات والستينات، أصدر أمل دنقل مجموعة شعرية ثانية نشرت، مثل الأولى، في بيروت. وترسخت مكانته كشاعر رؤية وقضية في الوقت نفسه، وبدأت هذه المكانة تترسخ عربياً، ليصبح صاحبها واحداً من أكبر شعراء الطليعة، خصوصاً أن الظروف السياسية في مصر، جعلت قصائده الغاضبة ضد ما يحدث، تنشر، وأكثر من مرة دائماً، في الصحف العربية. وحين صدرت مجموعته الجديدة «مقتل القمر» في بيروت أيضاً في العام 1974، لتتبعها في العام التالي مجموعة جديدة بعنوان «العهد الآتي»، لم يعد أمل دنقل في حاجة لأن يعرّف قراء الشعر العربي بنفسه، لكنه بدأ يزداد قلقاً ومرارة عن ذي قبل، فالأوضاع السياسية التي لا ترضيه، ترهقه، ووضع الثقافة المصرية والعربية في انهيار.
> ما تبقى لديه في تلك الآونة كان شعره، ووظيفة صغيرة شبه رمزية ضمنت له حياة كريمة بعض الشيء في منظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية. وهو، على عكس زملاء له كثيرين، آثر أن يبقى في مصر، على رغم كل ما يحدث، ولم يلحق بركب الهاربين من سياسة أنور السادات، على رغم معارضته هذه السياسة. كل هذا زاد من قلقه وزاد من غضبه، ومن هنا حين زار الرئيس السادات إسرائيل كتب أمل دنقل قصيدته «لا تصالح» التي كانت فاتحة في الشعر السياسي العربي الحديث، وهي قصيدة ضمتها مجموعته «أقوال جديدة عن حرب السويس» التي صدرت في القاهرة، عام 1983، بعد رحيله، في العام الذي صدرت فيه مجموعته الأخيرة، المتحدثة عن مرضه وموته بعنوان «أوراق الغرفة 8».