لا يمكن تصديق أن الولايات المتحدة تتوقع أن تسلّم إيران المفاتيح التي راكمتها في المنطقة والعالم منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. ولا يمكن تصديق أن واشنطن تتوقع أن يستجيب نظام الولي الفقيه للمطالب الـ12 التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في مطالعته الاستثنائية حول إستراتيجية بلاده لمواجهة “الحالة” الإيرانية في العالم.
ومع ذلك لا جدال في أن الولايات المتحدة تنطلق في مقاربتها لإيران من خارطة طريق تبدأ من مرحلة سابقة على إعلان الرئيس دونالد ترامب قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي، وتتطلب تدابير وإجراءات وقرارات لاحقة على إعلان الوزير الأميركي.
ما أعلنه بومبيو يعدّ انقلابا على مسار أميركي عابر لكافة الإدارات التي تعاقبت على حكم الولايات المتحدة منذ أربعين عاما. تحوّلت أميركا إلى “الشيطان الأكبر” في تصنيفات “الثورة الإسلامية”، وبالتالي أضحت عدوا شرعيا للخميني وورثته تجوز ضده كل صنوف الهجمات التي تحمي “المستضعفين” من “الاستكبار”.
خطفت إيران مواطنين أميركيين عبر أذرعها في بيروت ودمرت ثكنة المارينز في العاصمة اللبنانية وتركت لـ“طلابها” أن يحتجزوا الدبلوماسيين الأميركيين في طهران، وأتاح تعاونها مع “المقاومة” العراقية حتى بشقها المرتبط بتنظيم القاعدة أن يقتل جنودا أميركيين في العراق وربما في أي مكان في العالم.
كان من شأن تلك اللائحة التي تطول أن تفجّر حربا بين إيران والولايات المتحدة. وكان من شأن التهديدات العلنية التي أطلقتها منابر طهران، لا سيما “حرسها” و“فيلقها” ضد واشنطن، أن تنفخ تيارا أميركيا يدفع باتجاه القضاء على النظام في إيران كما قضى الأميركيون بسبل متعددة، بما في ذلك من خلال تحالفات من خارج “الأمم المتحدة”، على الأنظمة في يوغسلافيا والعراق وليبيا وأفغانستان، وربما أن اللائحة تطول أيضا، لكنهم لم يفعلوا.
حين يتحدث الوزير الأميركي عن فرض “أقسى عقوبات في التاريخ” ضد إيران، فإن الحدث، مقارنة بما لم يفعله الأميركيون خلال ما يقارب من أربعة قرون، يعدُّ تاريخيا. يكرر بومبيو كرها لنظام إيران لطالما ردده ترامب بملل منذ الأيام الأولى لترشحه للرئاسة في بلاده. يعرض الرجل في إستراتيجيته وصفة علمية لكيفية إسقاط النظام في إيران، ففي روح الإستراتيجية ومضمونها وشروطها وثيقة استسلام مطروحة على نحو يدفع إلى التساؤل الكبير “لماذا استيقظت واشنطن على كره نظام تعايشت معه بخبث منذ عام 1979؟”.
في التفسير الجيو-استراتيجي أن الولايات المتحدة عضّت على جروحها في العقود الماضية من أجل مرام إستراتيجية كبرى. كان إسقاط الاتحاد السوفييتي وشبكاته الدولية يستدعي تعبيد الطريق لروح الله الخميني بديلا عن الشاه المترنح. وكانت إعادة رسم العالم بعد اندثار الحرب الباردة أهم من التلهي بالمماحكة مع أحد أضلاع “محور الشر” حتى لو اتخذت تلك المماحكة في بعض الأحيان وجوها دموية مؤلمة. ثم إن اعتداءات 11 سبتمبر 2001 جرّت مياها صوب الطاحونة الإيرانية بصفتها حليفا موضوعيا ضد “الإرهاب السني” الذي ضرب في قلب الولايات المتحدة.
تقاطعت مصالح واشنطن وطهران في أفغانستان ضد حركة طالبان، وفي العراق ضد نظام صدام حسين، ثم بعد ذلك في الحرب ضد الإرهاب التي انتقلت من تلك ضد “القاعدة” إلى تلك المحدثة ضد “داعش”. وعلى هذا تواطأت الولايات المتحدة وإيران على تبادل الشتائم بما يحفظ لطهران وظيفتها كمدافع عن المستضعفين وراع لـ”المقاومة”، وبما يحفظ لواشنطن زعامتها للعالم الحر ودفاعها عن الخير ضد منابر “الشر” في العالم.
تغير العالم وتغيرت قراءة الولايات المتحدة لهذا العالم. لم تعد الورقة الإيرانية ثمينة في يد أصحاب القرار الإستراتيجي في واشنطن على النحو الذي كان يتطلب حمايتها ورعايتها قبل ذلك (هل يجب التذكير مرة أخرى بـ“إيران غيت”؟).
كان ضلوع الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما قمة التواطؤ الأميركي الإيراني في هذا السياق، ويبدو أن مقاربة ترامب وإدارته للقراءة الأميركية الجديدة للعالم أسقطت إيران وأوراقها من حسابات واشنطن. وعلى هذا يطيح الرئيس ووزيره بإيران الثورة، وتهدد العواصف التي تنفخها واشنطن كل ما حققته إيران خارج حدودها.
لم تعد إيران في عرف الولايات المتحدة “إمبراطورية عاصمتها بغداد”، ولا يبدو أن واشنطن تهضم مسلّمة طهران باحتلالها لأربع عواصم عربية. الأمر ليس قراءة أو تحليلا بل أمر عمليات واضح في نص الإستراتيجية التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي للعالم أجمع.
وعلى الرغم من استبشار خصوم إيران خيرا كثيرا من فتاوى بومبيو، غير أن ذلك التحوّل يطرح أسئلة حول قدرة واشنطن على تحويل النص إلى خطة عملية فاعلة قابلة للإنجاز، وحول الإمكانات التي تملكها الولايات المتحدة ليس فقط لتنفيذ العقوبات التاريخية، بل الذهاب بعيدا في الرد على ما يمكن أن يخبئه كتاب المرشد علي خامنئي من وصفات دفاعية، بما في ذلك الهرب نحو الانفجار الكبير على ما لا يخفي جنرالات إيران ومنابر “حرسها”.
منذ “عودة” الولايات المتحدة إلى المنطقة بعد الانسحاب من العراق، ومنذ أن بات التدخل الأميركي علنيا في سوريا، لم يدفع الأميركيون أثمانا غالية على منوال تلك التي دُفعت في العراق خصوصا بعد غزو عام 2003. بدا أن التماس الأميركي-الإيراني في الميادين المشتركة في العراق وسوريا يدار بحكمة تتحاشى التصادم، لكن كيف ستتصرف الإدارة الأميركية حين تستفيق على تساقط جنودها في المنطقة نتيجة لهجمات “إرهابية” من قبل جماعات جديدة أو حتى من قبل تلك التقليدية التي تستفيد، وفق اتهامات بومبيو نفسه، من تواطؤ إيراني؟
لا يأتي السؤال مجانيا. عام 1983 كان الرئيس رونالد ريغن في عزّ نجوميته زعيما للدولة التي ستحتفل بعد سنوات بسقوط “إمبراطورية الشر” السوفييتي. أرسل قواته إلى لبنان للإشراف على انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.
ثم أرسل البارجة الشهيرة نيو جيرسي لفتح نيرانها على العودة السورية في عهد حافظ الأسد إلى لبنان. وحين دمر انفجار إيراني الهوية مقر المارينز في بيروت (أدى إلى مقتل 241 جنديا أميركيا)، لملم رجل أميركا القوي قواته وعاد بها إلى الولايات المتحدة، فماذا ستفعل واشنطن-ترامب إذا ما بدا أن لإستراتيجية بومبيو أثمانا غالية جدا؟
طرح بومبيو عرضا أميركيا للعالم أجمع وليس لإيران. لن يصمد الاتفاق النووي مهما حاول الأوروبيون ترميمه دون الولايات المتحدة. ستعزل واشنطن إيران عن العالم، وتحاصرها بأقسى العقوبات التي تحيلها بعيدة عن شروط العصر في عالم اليوم. وفي ما قاله عن استعداد لفتح صفحة جديدة مع إيران إذا ما قرر نظامها فتح صفحة جديدة مع نفسها، مهمةٌ مازالت واشنطن توكلها للأوروبيين ليأتوها بإيران الدولة بعد وأد إيران الثورة.
من كتبَ نص مايك بومبيو غطّس قلمه بحبر ينهل منابعه من تحولات حقيقية ميدانية بعيدة عن الأبجديات. تلك التي أفصحت عنها الانتخابات العراقية، وتلك التي فضحتها مظاهرات الإيرانيين في العشرات من المدن قبل أشهر، وتلك التي تكشف عنها الانفجارات الكبرى الغامضة التي تستهدف المراكز الإيرانية في سوريا، وتلك التي وضعت على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلمة السرّ في سوريا “إيران برا برا”.