يبالغ المتفائلون العراقيون والعرب، ومعهم الأميركان والأوروبيون، في تقديراتهم لقوة مقتدى الصدر الحقيقية، وقدرته على تعديل مسار السفينة العراقية التي احتكر الدخول إلى غرفة قيادتها ربابنةٌ كُثرٌ، إيرانيون وأميركيون وآخرون.
حتى أن بعضهم ذهب بعيدا في توقعاته، فأعلن أن مقتدى قد أخرج العراق، أو سيخرجه، من الخيمة الإيرانية، دون رجعة.
ولكي نوافق على تقديرات من هذا النوع، وبهذا المستوى، يتوجب علينا أن نتذكر أن العراق، وخصوصا في المواجهات المتصاعدة بين إيران وأعدائها وخصومها الكثيرين، هو الحلقة المركزية التي لا مستقبل للهلال الشيعي الممتد من طهران إلى سوريا ولبنان دون موقعه وثرواته وكثافة شيعته المضطرين، اضطرارا، إلى الاحتماء بخيمة الولي الفقيه.
شيء آخر. إن النظام الإيراني مدرك لحقيقة أن خروجه من العراق، أو مجرد ضعف نفوذه فيه، وهيمنته على حكومته وبرلمانه وأحزابه وقواه السياسية الرئيسة الفاعلة، شيعية وسنية، عربية وكردية، يعني نهاية وجوده في سوريا ولبنان. وهو يعني، بالتبعية، بداية الهجمة المعاكسة المحتومة التي لا بد أن يفاجئه بها أعداؤه وخصومه الكثيرون المتربصون به، والمصممون على محاصرته التي لا بد أن تؤدي إلى سقوطه في النهاية.
وقد كرر الكثير من قادة النظام الإيراني، وأولهم المرشد الأعلى علي خامنئي، أن حروب إيران في خارج حدودها هي لمنع حدوث تلك الحروب داخل حدودها.
وهذا ما يفسّر عجالة قدوم قاسم سليماني إلى العراق، على جناح السرعة، مستبقا أي تحالف تعقده الائتلافات التي فازت بأكبر أعداد المقاعد في البرلمان القادم، ليباشر بنفسه ودون الاعتماد على وكلائه العراقيين، في الحيلولة دون تحوُّل نتائج الانتخابات إلى سكين بيد الأميركان وحلفائهم يغرزونها في خاصرتها العراقية التي لا تُعوض.
ولا أحد يشك في أن قاسم سليماني، بما له في العراق من أسلحة طائفية وسياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، سيشهر كل أسلحته المتوفرة تلك لمنع خروج البرلمان العراقي الجديد والحكومة الجديدة من القفص الإيراني، قبل فوات الأوان.
ومقتدى الصدر نفسه يدرك هذه الحقيقة. ويعلم، أيضا في الوقت نفسه، أن المخابرات الإيرانية ليست غبية لتتركه حرا في حله وترحاله، ولا تدسَّ على حماياته وحراسه عناصر من طوابيرها النائمة، أسوة بما تفعله مع باقي السياسيين العراقيين الكبار الآخرين.
ولا بد هنا من التذكير بأن مقتدى الصدر الذي لم يُعرف إلا بعد الغزو الأميركي، وبعد تشكيله تيارَه الصدري وميليشياته المتشددة، لم يكن ليستطيع الصمود في مقاتلة الأميركان وحلفائهم العراقيين، دون الغطاء الإيراني الواقي، والتنسيق والتفاهم والتعاون مع مخابرات الولي الفقيه وسفارته في بغداد.
نعم، إن مقتدى أكثر وطنيةً عراقية من باقي رفاقه العراقيين العاملين تحت الخيمة الإيرانية، كنوري المالكي وهادي العامري وعمار الحكيم، ولكن وطنيته تلك لا تؤهله للتمرد الحقيقي والنهائي على إرادة النظام الإيراني وطوابيره العراقية النائمة.
والسفارة الأميركية في العراق، ومعها حكومات عربية، تعلم بذلك، ولكنها ترى أن النفخ في استقلالية مقتدى ووطنيته هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لتوسيع النبض الشعبي المدني الوطني الديمقراطي العراقي، وتعميقه وتثويره كخيار وحيد لا خيار غيره في ظل الظرف الراهنة في العراق والمنطقة.
ومبكرٌ جدا أن يتنبأ أحد لانضمام مقتدى أو عدم انضمامه، إلى تحالف يضمه إلى ميليشيات الحشد الشعبي، التي يكره بعضها ويصفها بالمارقة، بحجة أو بأخرى. وها هو يُشدد على ضرورة تشكيل حكومة أبوية بمشاركة جميع الكتل الفائزة. فقد ذكر مكتبه أنه “استقبل في مقر إقامته ببغداد هادي العامري، وبحث تطورات العملية السياسية وما أفرزته الانتخابات البرلمانية لعام 2018”. وشدد خلال لقائه بالعامري على “أهمية مشاركة جميع الكتل الفائزة التي تنتهج مسارا وطنيا في تشكيل الحكومة المقبلة”.
هذا بالتزامن مع إعلانات إيرانية رسمية متكررة، أخيرا وبعد فوز ائتلاف “سائرون” بأكثر المقاعد، تُشيد بمقتدى، وخصوصا بمواقفه المشهودة في معاداة أميركا ومقاتلتها، من أول غزوها للعراق وحتى اليوم. وذلك بالتزامن، أيضا، مع الإعلان الأميركي عن قرار تشكيل تحالف دولي ضد نظام طهران و“أنشطته المزعزعة للاستقرار”.
وبالتزامن مع دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من سوريا لبدء العملية السياسية فيها. وتقول الأنباء إن بوتين تحادث، حول ذلك، مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ومع رئيس الوزراء الإسرائيلي.
إن كل هذه التطورات والتحركات والتداعيات لا تشجع على الاقتناع بما يروجه البعض عن قدرة مقتدى على تحدي إيران وتخليص العراق من قبضة احتلالها، أسوة بما فعلته ميليشياته مع قوات الاحتلال الأميركي، قبل رحيلها. والحديث عن رغبته في معاندة قاسم سليماني، وعرقلة جهوده الرامية إلى لمّ شمل جميع الحبايب، مقتدى والعامري والمالكي والعبادي والحكيم، حديث سابق لأوانه بكثير. وإن غدا لقريب جدا على من يملك الصبر والقدرة على الانتظار.