شكل فوز المخرجة نادين لبكي بجائزة في مهرجان كان السينمائي عن فيلمها "كفرناحوم" استفزازاً لدى الإعلامية منار الصباغ والنائب نواف الموسوي جراء الإفراط في الاحتفال والاحتفاء به عبر الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
أسباب الاستفزاز تبقى أسيرة التكهن، وإن يغلب عليها الاحتمال المتعلق بموضوع الفيلم، وهو الطفل السوري زين الذي تهجر من درعا، حيث اندلعت شرارة الثورة السورية مع جريمة النظام الاسدي بحق أطفال كتبوا على الجدران شعارات مناهضة للنظام.
وكأن التغريدة تلغي هذه الجريمة او تريد للتاريخ ان يشطبها باستحضار ما تعتبره كاتبتها جريمة موازية ارتكبت بحق شباب من "حزب الله" قتلوا في معركة القصير بحجج تدرجت لتبرر تدخل الحزب عسكرياً للدفاع عن النظام الاسدي، ووصلت الى حد القول ان طريق القدس تمر عبر حلب.
او هي رد غرائزي على عمل ثقافي قد يحمل في طياته اتهاماً للحزب بالمساهمة في تشريد الشعب السوري .
لكن البداية كانت مع أطفال درعا ومع الطفل حمزة الخطيب الذي لا يحتسبه الحزب الإلهي شهيداً ولا يمنحه مجد الارتقاء.
من هنا، تشير تغريدة الصباغ ومعها سخرية الموسوي: "بلا لبكي، بلا وجع رأس. وقت الجد ما فيه غير سلاحك بيحميك"، الى ان الثقافة من الحروف الناقصة، خاصة اذا صدرت عن أبناء فينيقيا الضائع ملكهم والذين عادوا أهل ذمة يحتاجون الى رافعة الممانعة للبقاء والحصول على المناصب والمكاسب.
بالتالي يجب تذكيرهم ان من يقدم الشهداء يحصل على المجد. هكذا هي المعادلة.. وهكذا يجب ان تكون المفاضلة.
ومجد لبنان لن يكون بعد اليوم الا من مكتسبات محور الممانعة الذي يمثله الحزب الإلهي وقديسوه. واي كلام عن لبنان "الفينيقي" هو أشبه بالبكاء على الاطلال، فهذه الحقبة انتهت الى غير رجعة مع فائض القوة الذي يترجم انتصاراته بمصادرة لبنان بكل ما فيه. ويتصرف وكأن هذا البلد تغيرت صورته ومسيرته وسيبقى أسير هذا المجد لقرون.
وبشكل او بآخر، تختصر الكلمات المنتقاة في تغريد صباغ والموسوي الانقسام العمودي الذي يتحكم باللبنانيين منذ العام 2005 ويعزلهم عن بعضهم البعض ويخلق غربة بين مفهومين سادا آنذاك، وهما ثقافة الحياة وثقافة الموت. والمفهومان تشظيا مع تعاقب الاحداث لنصل الى مرحلة من التعايش الارغامي القائم على مبادلات ومفاضلات لا علاقة للثقافة او المفاهيم الوطنية بها.
الا ان أهم ما انتجه هذا التشظي يبقى الانغماس في الأيديولوجية، دينية كانت او قومية او غير ذلك، ويحكم اغلاق الدائرة على أصحابها، فيدورون في فلكهم الخاص ويعتبرون ان أي إشارة الى ما يمس حدود دائرتهم يشكل اضطهاداً لهم وهجوماً مباشراً عليهم.
وهذا الانغماس كان ولا يزال بوابة الصراعات عبر التاريخ، لأنه يقولب القيم والمفاهيم ويلغي الإنسانية والعدالة لحساب القضية.
وغالباً ما يخاف الثقافة لأنها تولد الانفتاح. لذا يقترن بالتحريم. كأنه يقول: لا تقرأ ... لا تقترب من الفن افلاماً ولوحات وموسيقى واغنيات... لا تفكر...لا تتثقف. ذلك ان الثقافة صارت شتيمة وتهمة عندما يتعلق الامر بالمفاضلة بين الإنسانية و"القداسة".
كتابك يجب ان يبقى في حيز هذه القداسة القائمة على التبعية الكاملة والاستلاب. نفذ ولا تعترض ومت...ونحن نستقوي ونسجلك شهيداً ونفتح لك جناحاً في الجنة.
لا يهم اين تستشهد ومن أجل أي قضية. نحن نحدد القضايا او نخترعها. وما دام العدو الصهيوني الغاشم محاذياً لحدودنا الجنوبية لدينا الذريعة لأن نستثمره ونرفده تارة بالإرهاب وطوراً بالامبريالية والاستكبار.
نحن نصنف المجد ونحذر من الافراط في نشوته. المهم الافراط في السلاح والاستشهاد.
كذلك نصنف الموت. نحدد المسافة بين التعازي والتبريك.
فالانغماس لا يرى في ادواته البشرية الا صوراً تعلق على جوانب الشوارع. هكذا ترتفع اسهمه. البشر يبقون نسياً منسياً حتى يتجمدوا ويصيروا صوراً تعلق على أعمدة الطرق، فيرسمهم قديسين ارتقوا الى حيث الحور العين.
اما من تسبب النظام السوري ومعه أذرع الممانعة بتشريدهم في الشوارع وتهجيرهم من بيئتهم ومصادرة منازلهم فلا يستحقون ان تجسد معاناتهم في عمل ثقافي سينمائي يحظى بجائزة.
فهؤلاء هم على الأكثر مشروع إرهاب يتجدد ويتم استخدامه وفق ما تتطلبه اجندة المشاريع المقدسة.
الأطفال السوريون الذين انتزعوا من ارضهم ومدارسهم وأمانهم ليسوا قضية. ولا يهم ان اعتبرهم الغرب الامبريالي كذلك. فهذا الغرب الكافر لا أمان له، ولا قيمة لجوائزه التي يحتفل بها أبناء فينيقيا.
لا يحق لطفل سوري ان يصبح قضية. ولا يحق لمخرجة لبنانية ان تتناول قضيته، لأنها بذلك تدين من تسبب بتشرده. والأخطر انها تعمل في الحيز المتحرك من الطرق، ومن دون سلاح، بينما المطلوب هو الاستقواء بالسلاح الذي نستعين به ونستعيض به عن الوطن ونحقق المجد بفضله. ومن لا يصدق فليكحل عينه بصور تحتل الحيز الجامد المعلق على مفارق هذه الطرق.