لم أتوقع أن يكون ربيعياً ما سُميّ باليوم الانتخابي في لبنان. بالنسبة إليّ، كان مأتماً انتخابياً حيثُ عُمل على وأد مفهوم «لبنان الرسالة»، لبنان الواحد الموحّد كما جاء في خطاب بابا روما الأسبق جان بول الثاني، أوائل تسعينات القرن الماضي. فمنذ إقرار قانون الانتخاب السيئ الذكر، والذي كرّس الطائفية والمذهبية، لم أتوقع سوى الأسوأ! فالثابت أنّ الطوائف والمذاهب- بدلاً من الأحزاب والمجموعات السياسية- هي التي اقترعت. تأسّس انتخاب اللبنانيين الأخير، مع الأسف على كُره الآخر. فكلّما زاد الكره لفريق حصد الفريق الآخر مقعداً أو مقاعد إضافية.
لا يمكن بناء وطن على قاعدة كره الآخر واستمرار التناحر، وكأنّ هنالك دائماً وأبداً متاريس ليس فقط على الأرض، بل في النفوس، تفصل بين اللبنانيين الذين ارتضوا لبنان وطناً نهائياً. كأنّ الذين يُثيرون الضغائن ويُتقنون الشحن الطائفي والمذهبي نسوا أنّ الوطن مودّات Une nation c’est des amitiés، كما يرى موراس، وأنه شراكة أحلام communauté de revês كما يرى مالرو. فيا حبذا لو يتقيّد أصحاب الشأن بالمودّات والأحلام! ومــن المؤسف أن نسمع أخيراً ما ذكره رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بعد اجتماعه مع النائب الأمير طلال أرسلان، قائلاً إنّه سوف يعمل على استعادة حقوق المسيحيين والدروز! وكأنّه نسي أنّ استعادة الحقوق تُبنى وتتأسّس على تعزيز الديموقراطية والمواطنة.
ويا ليته يسعى إلى استعادة حقوق جميع اللبنانيين، مـــن دون استثناء، من خلال العيش في بيئة صحية بعيدة من التلوث والنفايات، وبيئة سياسية تقوم على الحوكمة ولا تمت بصلة إلى الفساد والرشوة والهدر واستغلال المناصب.
تمّ تجييش الناخبين على الشحن المذهبي والبغض. وهكذا بتنا نسمع أصواتاً تقول تجنّبوا أن تكون بيروت فارسية! (أي بمعنى آخر شيعية)، وأصواتاً أخرى تحذّر من أنّ عدم التصويت للائحة «حزب الله/ أمل» تعني أنّ الدواعش (وهم من السنّة حتماً...) سيغزون بعلبك!! ووصل الأمر إلى رفع صور صدام حسين مقابل صور بشار الأسد!! بئس هذا الجو المذهبي الخانق، الذي حدا، على سبيل المثال، بيوسف محمد بيضون (المرشح عن الدائرة الثانية– بيروت) أن يرفع صورة له في عين المريسة عنوَنَها كالتالي: «شيعي... بيروتي أصيل!» وكأنّه لم يدرِ أنّ الناخبين حين كانوا يدلون بأصواتهم في الماضي الغابر والحلو لوالده ومن قبله لرشيد بيضون (عن الدائرة نفسها) لم يصوتوا لهما لكونهما من المذهب الشيعي، بل لما كانا يتمتعا به من صفات ومزايا. سقى الله ذلك الزمن حين كان الرئيس سامي الصلح والذي كان أيضاً نائباً عن الدائرة الثانية، كان يفوز بالمقعد النيابي بدعمٍ شعبي متنوّع بين كلّ الطوائف والمذاهب. كانت قاعدته المسيحية توازي قاعدته الإسلامية إن لم تكن تُضاهيها.
مؤسف أن نقرأ أنّ ما يُسمّى «بالبلوك العلوي» هو الذي رجّح فوز فيصل كرامي في طرابلس! وأنّ «البلوك السنّي» في زحلة لم يتحرك كما يجب. وهكذا دواليك. أيضاً من دواعي الاستغراب أن يحصر رئيس الحكومة سعد الحريري تحركه حيث يوجد الناخبون السنّة، فيقصد سُنّة البترون فقط طالباً منهم دعم صديقه جبران باسيل. ويفعل الشيء نفسه في العرقوب دعماً للمرشح عماد الخطيب. فالتيار الأزرق كما عهدناه كان ولا يزال ويجب أن يظل عابراً للطوائف والمذاهب. «رزق الله على ذلك الزمن» حين كان النائب محمود عمّار (الشيعي) يفوز بأصوات المسيحيين في دائرة بعبدا. وأحمد إسبر، الشيعي أيضاً، يفوز بأصوات الموارنة في جبيل! أصبح الكلام عن «البلوك الشيعي» مملاً. ذلك أنّ المناطق الشيعية شهدت مُبايعة ولم تشهد انتخابات، الأمر الذي حجب واقع الفقر والذي عادة ما يشكل حافزاً أساسياً للتغيير. لكن الذي اتبعته القيادات المعنية كان كالتالي: كلّما ازددت فقراً ازددت تبعية!! في الستينيات كان من المؤمّل من قوى التغيير (من يسارية وغيرها) أن تفعّل نشاطها في المناطق المحافظة- المسيحية تحديداً- بدلاً من أن يقتصر عملها في المناطق الإسلامية التي كانت بحكم تركيبتها الاجتماعية والاقتصادية حاضنة لشعارات التغيير. في السياق نفسه كنّا نتمنّى- ولا نزال- أن يتم العمل على اختراق ما سُمّي «بالبلوك الشيعي» ليس فقط لمصلحة اللبنانيين، كلّ اللبنانيين، بل لمصلحة الطائفة الشيعية نفسها، لكنّ شيئاً من هذا لم يحصل.
المنحى الطائفي والمذهبي تعود أسبابه إلى القانون الانتخابي الحالي والذي تمّ اعتماده كما قيل كُرمى لعين فلان وعلتان، مع اعتماد الصوت التفضيلي على أساس القضاء وليس على أساس المحافظة لضمان الفوز. ويعود أيضاً إلى غياب «القضية» التي كان من المنتظر أن تعمل على تحفيز النّاس على الإدلاء بأصواتهم. غابت العناوين السياسية الكبيرة واستُبدلت بشعاراتٍ مستهلكة، وهذا ما يُفسّر تدني نسبة التصويت، خصوصاً في العاصمة.
حسناً، أصبحت الانتخابات وراءنا. حبذا لو يتم التسريع في تأليف الحكومة برئاسة الرئيس سعد الحريري، بأسرع وقتٍ ممكن، لأنّ كلّ يوم تأخير يُشكل ضرراً على اللبنانيين. فمؤتمر «سيدر1» وقانون النفط في حاجة إلى حكومة متماسكة. ويجب أن لا نفسح المجال للمناكفات أو ما سمّاه محمد علي فرحات بـِ «الخفة» عبر اختلاق صراعاتٍ لا تُسمن ولا تُغني من جوع (راجع مقاله «إنقاذ لبنان من حرب إسرائيلية إيرانية»، «الحياة» 10 أيار/ مايو 2018).
أثناء الحملة الانتخابية ورد أكثر من مرّة وفي شكل متواصل ذكر الراحل الكبير الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وليتهم تركوا رفيق الحريري حيثُ هو يرقد بسلام، لأنّه لو عرف بتلك الأجواء المذهبية المشحونة التي سادت الانتخابات البرلمانية، ولو تناهى إلى مسامعه مساوئ قانون الانتخاب، لنزف الدمع من قلبه قبل... مقلتيه!! يكفي أنّه جهد وجاهد لوحدة لبنان واللبنانيين، ليس فقط بالقول بل بالفعل، وذلك من خلال مشروع إعادة إعمار وسط مدينة بيروت.
عمل الحريري على تطوير وسط العاصمة لأنه كان يؤمن إيماناً جازماً بضرورة إزالة الحواجز وإيجاد مكــان للتلاقي. ثمّ إنّنا لا نريد أن ينطبق علينا ما ذكره الشـــاعر أدونيس: إنّ الشعب المُحب الذي لا يُحب إلاّ الذين ماتوا، هو شعبٌ وفيٌّ للقبور، لأننا كنّا ولا نزال وسنظل من الأنصار الأحقاء الحقيقيين والمناضلين والأوفياء والشرفاء... للمستقبل.
(عبدالرحمن عبدالمولى الصلح)