الخطأ اللغويّ الشائع، الذي قد يسهّل التواصل والتوصيل، غير الخرافة الشائعة. الأخيرة تبدّد المعنى وتخطئ فهم العالم والتواصل فيه. وهي، في آخر المطاف، نتاج مصنوع، تعدّد صانعوه، وإن بدت بديهيّةً أو من طبيعة الأشياء.
إحدى الخرافات الشائعة في حياتنا السياسيّة والفكريّة هي أنّ فلسطين «قضيّة العرب الأولى». فحين لا يتعامل العرب معها بموجب هذه الصفة نصرخ: أين العرب؟ يا للعرب! بعضنا الأكثر فصاحة يتذكّر فتح عموريّة والمعتصم وأبا تمّام.
مع مأساة غزّة الأخيرة سجّلت هذه الصرخة إيّاها انفجاراً مُدوّياً جديداً مصحوباً بكثير من اللطم وذمّ «الزمن العربيّ الرديء».
لكنْ هل حقّاً كان «العرب» يتدخّلون عسكريّاً لأجل فلسطين في أزمنة أقلّ «رداءة»؟ هل كانت «الجماهير العربيّة» تحضّ على مثل هذا التدخّل لأجل فلسطين؟ وهل كانت التدخّلات التي تحصل آنذاك مفيدة لفلسطين؟
«العرب» كانوا يتدخّلون عسكريّاً لأغراض تخصّهم: فاروق وعبدالله تدخّلا، في 1948، على أمل الاستيلاء على ما يتبقّى من فلسطين. عبدالناصر قاده السعي إلى بناء زعامة عربيّة إلى معارك فلسطين. الملك حسين، في 1967، قاده الخوف من انهيار نظامه في بلد ذي أكثريّة فلسطينيّة. حافظ الأسد قادته الرغبة الدائمة في تحويل الأنظار عن بطش نظامه وعن تناقضات مجتمعه. أنور السادات قادته الحماسة، في 1973، إلى استعادة أرض مصريّة محتلّة.
تلك التدخّلات لم تؤدّ مرّة إلى انتصار، وتحديداً إلى انتصار يعود بالنفع على الفلسطينيّين. الاستثناء الجزئيّ كان حرب تشرين الأوّل (أكتوبر) 1973. حينذاك استعادت مصر، لا فلسطين، أرضها المحتلّة. «انخراط» الأردن ولبنان في المعركة، مع المقاومة الفلسطينيّة ثمّ مع «حزب الله»، خرط البلدين حروباً أهليّة وأحقاداً ولم يُنجد فلسطين.
الحضّ الجماهيريّ على التدخّل كان ظاهرُه الموضوعَ الفلسطينيّ وباطنُه أهواء كثيرة، يتداخل فيها الزعم الدينيّ أو القوميّ بالزعم الهويّاتيّ الطائفيّ. هذا يفسّر لماذا فاقت الحماسة لفلسطين عند المسلمين السنّة نظيرتها لدى الأقلّيّات المسلمة وغير المسلمة في بلدان كلبنان والعراق. ولماذا في طور آخر، مع استيلاء إيران على المقاومة، بات المسلمون الشيعة الأكثر تشديداً على فلسطين.
لقد حفّت بهذه المسألة أغراض عديدة لجماعات وأنظمة وقوى كثيرة، ودوماً كان أضعفُ هذه الأغراض مصلحةَ فلسطين والفلسطينيّين. هكذا وفي وقت واحد استُرخصت المسألة الفلسطينية بيدٍ، وباليد الأخرى، وباسم فلسطين، مُنعت مسائل الشعوب والأوطان وحقوقها. فحين كان ينشأ نزاع أهليّ، كما في الأردن ولبنان، وفي شكل أسوأ كثيراً في سوريّة بعد الثورة، كان «عاشقون لفلسطين» يخوضون حرباً مدمّرة كـ «حرب المخيّمات» أو يسوّون بالأرض مخيماً فلسطينيّاً كاليرموك.
لهذه الأسباب وغيرها بذل الفلسطينيّون في حروب «القرار الوطنيّ المستقلّ» أكلافاً فاقت جميع الأكلاف التي بذلوها في حروبهم الأخرى. ونعتُ «المستقلّ» هنا لا يطال إلاّ «العرب»، وبتحديد أكبر: نظام حافظ الأسد في سوريّة.
وفي الحالات جميعاً، بات هذا تقليداً: هكذا انتقلت الوصاية اليوم إلى أيد إيرانيّة وتركيّة، فيما يحظى التكرار بطعم المأساة حين تنقلب إلى مسخرة.
فاليوم، بعد الثورات، تغيّرت الدنيا. اكتشفت البلدان العربيّة أنّ لديها قضاياها التي استُخدمت فلسطين لطمسها. واكتشف الفلسطينيّون أنّ «العرب» استخدموهم أكثر كثيراً ممّا أنجدوهم، فضلاً عن أنّ قدرتهم على الإنجاد ليست أكثر من قدرة الفلسطينيّين على إنجاد أنفسهم.
لقد باتت المصارحات المتبادلة ضروريّة بعد كلّ الكذب الذي كذبناه والدم الذي سكبناه، وذلك كي يتدبّر كلّ طرف أمره بلا نفاق. أمّا التعاطف مع الألم الفلسطينيّ فيبقى واجباً مؤكّداً، وواحداً من المعايير الإنسانيّة والأخلاقيّة، لا لأنّنا عرب، بل لأنّنا بشر.