كفرناحوم، إسم عبري لمدينة كنعانية تقع على ساحل بحيرة طبرية شمال فلسطين، ورد ذكرها في الكتاب المقدس، وانتقل إليها يسوع المسيح من الناصرة، وجعل منها مركزاً له وأظهر فيها كثيراً منم العجائب، وفيها ألقى خطبته المشهورة "موعظة الجبل". ومن هذه المدينة استهلمت المخرجة اللبنانية المبدعة نادين لبكي إسم فيلمها الذي حققت من خلاله إنجازاً للبنان ولمسيرتها السينمائية في مهرجان كان في دورته الـ71 حيث فازت بجائزة اللجنة التحكيمية، وهي واحدة من ثلاث جوائز رئيسية ومعتبرة يقدمها المهرجان.
بعد فوزها وفي كلمة مؤثرة قوبلت بتصفيق حادّ أهدت لبكي الجائزة إلى "بلدي لبنان الذي على الرغم كل المآخذ عليه يقاوم بما تيسر. فهو يستقبل أكبر عدد من اللاجئين في العالم مع أنه غير قادر على تلبية حاجات شعبه في الأساس"، وهي قالت بعد تسلمها الجائزة "لم يعد بإمكاننا أن ندير ظهرنا لمأساة الأولاد المشردين، ولكن لا أعرف ما هو الحل، يجب أن نفكر معاً."
كفرناحوم فيلم مأساوي مكتمل العناصر، ليس بقصته فحسب، بل ببطله، الولد الذي يقاضي والديه لأنهما جلباه إلى الحياة، ويؤدي هذا الدور فتى سوري لاجئ في الثالثة عشرة من العمر يدعى زين الرافعي. من خلال هذه الحبكة، وبكثير من الصراحة والواقعية تقول لنا نادين لبكي وهي التي حرصت على أن يكون بطلها الصغير شريكاً في لحظة الفوز والاضواء؛ إن زين الطفل، المهجر، من درعا شريك لها في صنع جمالات الفيلم الفائز والمحتفى به في أهم وأعرق مهرجان سينمائي عالمي. إنها المشاعر الإنسانية العميقة في قصة تتسم بقدر كبير من الواقعية وكل ذلك بمثابة ردّ على طوفان الكراهية والعنصرية والقساوة التي فاحت وانتشرت في لبنان، حتى لكأنه ممنوع حتى الفوز والفرح والنجاح وتحسس آلام البشر في هذا البلد.
فلسببٍ غير مفهوم – وغير مبرر حتماً- انزلقت أصوات إلى تبخيس إنجاز المخرجة اللبنانية بذرائع متهالكة، وهي بذلك تردد صدى أصوات الشوفينية اللبنانية التي ترى في "السوري" – أيّ سوري - وفي النازحين كل شرّ وبلاء ونقيصة، مع أن ما قدمته لبكي هو قضية نبيلة، لا تعالج بالعصبيات والتحريض، وهذه شهادة مضاعفة لنجاحها في عرض المشكلة بشكل حيادي وموضوعي، ففي مقابل فشلٍ كثير وكثير جداً تضيف به بلاد الأرز، وفي مقابل خجلنا العميق من فشل من يتصدّرون المشهد في لبنان في السياسة والثقافة والإعلام والإقتصاد.. والقتل أيضاً ثمة من يبدع شيئاّ يسمح لنا بأن نرفع رأسنا فخراً للقول "نحن لبنانيين".
كعادتها، وكما فعلت من قبل في "سكر بنات" (2006)، ومن بعده في "هلأ لوين" (2010)، غاصت نادين لبكي في الواقعية، بحثت في كواليس مجتمعنا المهملة، فصنعت فيلماً فاز بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان، أكثر من ذلك انتزعت 15 دقيقة تصفيق متواصل من جمهور المهرجان، وهو أمر عند النقاد أهم من السعفة الذهبية بحدّ ذاتها!!
في أحد مشاهد الفيلم يسأل القاضي الفتى الموقوف (زين) أين تسكن؟ يجيب: في سجن رومية للأحداث.. ثم يسأله: أتعرف لماذا أنت موجود هنا؟ يجيب مجدداّ: أريد أن أشتكي على أهلي! يسأله القاضي: لماذا؟ فيقول الفتى مستعيراّ لسان وصوت الآلاف من أبناء جيله في العالم العربي: لأنهم جاؤوا بي إلى هذه الدنيا!! هكذا عندما تجتمع القضية الإنسانية المحقة بالإبداع تكون نادين لبكي وتكون سينما هادفة تستحق الإحترام والتقدير والمتابعة.
فاللجوء والنزوح ليس وليد صراعات الآخرين على أرضنا فقط، وحتماً صراعاتنا الأزلية التي لا تنتهي، هو في أحد وجوهه تعبير عن انتهاك متعمد لإنسانية الإنسان، وبراءة الطفولة، وحقهم في الحياة والكرامة والأمن والتعلم والعمل والنظرة للمستقبل بأمل وتطلع وإصرار، وكل ذلك شبه نادر في عالمنا العربي. وفي حالة "كفرناحوم" الفوز والتألق والنجاح صرخة رفض ليس لغياب السياسات العامة في التعامل مع ملف حساس وخطير كملف النزوح، بل أيضاً على ذلك الفشل الرهيب في كل شيء.
تحية إعجاب إلى نادين لبكي وبطلها الصغير"زين".