ليس مُوقّع هذه الأسطر من عشّاق أفلام نادين لبكي. وقد يصحّ قول البعض من نقّادها بأنّها “اغتنمت” سوق الموضوع النسويّ بعد حملة “أنا أيضاً”، كما “انتهزت” الحساسيّة حيال الطفولة المعذّبة. لكنْ ما دامت هذه التهمة مطّاطة، وتتّصل إلى حدّ ما بمعرفة النوايا، جاز القول إنّ نوعيّة العمل وجودته هما ما يقرّر. ولا بدّ أنّ الفيلم الأخير للبكي (الذي لم أشاهده) وجد معجبين ليسوا عديمي الصلة بالسينما، وربّما كان فيه ما يستحقّ التكريم.

هذا لا يلغي نقد الفيلم من هذا الموقع أو ذاك. قد يطلّ علينا، مثلاً لا حصراً، معجب بأفلام البريطانيّ كين لوتش أو الأميركيّ أوليفر ستون، ويدين الفيلم من موقع السينما النضاليّة.

السيّد نوّاف الموسوي، نائب “حزب الله” وأحد أصواته المنفلتة من حناجرها، اختار أن يكون ناقداً سينمائيّاً. أتحفنا بتغريداته التي قد تكون من المساهمات الأبرز لـ “حزب الله” في ثقافة والفنّ السينمائيّ. لكنّ الموسوي تكشّف عن ناقد عدميّ بالكامل:

هذه هي تغريداته السينمائيّة المستمدّة طبعاً من “ثقافة المقاومة”:  

“بلا لبكي، بلا وجع راس : وقت الجدّ ما فيه غير سلاحك بيحميك.

سذاجة ” المثقّف ” جهالة.
المعترض على بلا وجع راس و أختها، هلّا سمّى لي أسماء الأفلام التي تتناول المقاومة، أيّ مقاومة عربية كانت، و نالت جائزة غربية.
ليست مسألة هامشية بل هي قضية من يضع المعايير. ولّى زمن فرض معايير علينا، فنحن من يضع المعايير”.

لم يسأل الموسوي نفسه الأسئلة العمليّة الثلاثة التي لا بدّ منها:

أوّلاً، هل هناك أفلام سينمائيّة “تتناول المقاومة” وتكون جديرة، سينمائيّاً، بنيل جوائز؟

ثانياً، هل يملك، هو وصحبه في المقاومة، القدرة على وضع “معايير” للسينما الجيّدة، تكون هي الفيصل في محاكمة الأفلام؟

ثالثاً، لماذا لا تعطي المقاومة، كعلامة على اهتمامها بالفنّ السينمائيّ، جوائز تنعكس فيها تلك المعايير التي يزعم الموسوي التقيّد بها؟

أغلب الظنّ أنّ المسألة تقع في مكان آخر: إنّها شعور عميق بالدونيّة حيال السينما، وإقرار بعيد بالعجز عن اختراق هذا العالم “العجائبيّ”. هنا لا ينفع سلاح الموسويّ بأكثر ممّا تنفع قشرة البصل. أمّا “الحماية” التي يوفّرها السلاح فكم تبدو هشّة وضعيفة حيال “الحماية” التي توفّرها السينما من السلاح.

لكنّ ثمّة شيئاً آخر تنطوي عليه هذه الدونيّة. كراهية أن تنال مخرجة لبنانيّة وطفل سوريّ جائزة عالميّة. المخرجة اللبنانيّة تقول بعملها وبالاستحسان الذي لاقاه، أنّ ثمّة لبنان آخر، أذكى وأهمّ وأنفع وأكثر كونيّة من لبنان المقاومة. أمّا لبنان المقاومة فليس سوى ضريبة ثقيلة وسمجة عليه.

الطفل السوريّ يشير بحضوره إلى الذين حوّلوا حياته وحياة أطفال كثيرين آخرين في سوريّا إلى مأساة. نوّاف يعرف هؤلاء جيّداً. نجاح الطفل كابوس لمعذّبيه.

أسوأ ما في الأمر هو هذا العالم القاحل الذي تقترحه علينا المقاومة: الموت للسينما. الموت للحضور في العالم. الموت لكلّ شيء حيّ. الموت لكلّ لون. البندقيّة وحدها تحمينا. الشهادة وحدها تحمينا. الموت وحده يحمينا. عاش الموت.